تحقيق قوله صلىاللهعليهوسلم «إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب» (١) ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة. فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين ، والجسد من التراب الطيب (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣] ثم أحياكم بالإيمان (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] ثم يرزقكم من الطيبات (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) فتقبلوه تكلفا وقسرا «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه» (٢) فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي «لا إله إلا الله» ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق (حَمِيدٌ) على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي. (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ظاهرا فهو يأمركم بالفحشاء باطنا لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية. فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها ، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه. فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام ، والفضل ما لا تدركه الأوهام (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلا كما قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات. فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان ، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد إلا على قلوب الأنبياء والأولياء (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور. ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء (مِنْ أَنْصارٍ) ولا ناصر بالحقيقة إلا الله ، ومن أذن له الله
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث ٦٤. الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب ٣٦.
(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٩٢. أبو داود في كتاب السنة باب ١٧. الترمذي في كتاب القدر باب ٥. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٢.