أراد أن يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر ، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء (كَتَبْنا) مجرى «قلنا» وإما بطريق الحكاية كقولك : كتبت الحمد لله وقرأت سورة «إن أنزلناه». وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير. فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق ، والعين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، والجروح ذات قصاص أي مقاصة. وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين ، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا وهي التي توضح العظم وتبدي وضحه وهو الضوء والبياض ، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش. فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه. (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى القصاص وفي (فَهُوَ) إلى التصدق الدال عليه الفعل. وفي (لَهُ) وجهان : أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» (١) وعن عبد الله بن عمرو «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به» والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما العافي فأجره على الله تعالى (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي على آثار النبيين (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي عقبناهم به ، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مقرا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضا لكونه مبشرا بمبعث محمد صلىاللهعليهوسلم كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف ، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد ، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلىاللهعليهوسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته ، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ (وَلْيَحْكُمْ) بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه ، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٣٠).