السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : «أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين» (١). وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : «لا تفضلوني» ؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقا في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : (مَنْ كَلَّمَ اللهُ) التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي ؛ فإن كلّ مصلّ فإنه يكلم الله قال صلىاللهعليهوسلم «المصلي يناجي ربه». وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة. وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال. واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختلف في أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا ؛ منهم من قال نعم بدليل قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] وأورد هاهنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٤ ، ١٥] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة. قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ٧٨] وكما في أهل النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].
أما قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلا ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح. وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمدا صلىاللهعليهوسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه. هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب. أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه ؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه ؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٣. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢٧. الترمذي في كتاب القيامة باب ١٠. بلفظ «أنا سيد الناس يوم القيامة».