وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق. ويرد على هذا التوجيه أن قوله (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) لا يكون مبطلا لكلام الخصم. أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدنية» فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم.
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) [الزمر : ٦٧] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله (مَنْ أَنْزَلَ) مبطلا لقوله (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله (مَنْ أَنْزَلَ) حجة. ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك. ومنها أن الغزالي رحمهالله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئا ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئا فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نورا وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة. فالمراد بالنور ظهوره في نفسه ، وبالهدى كونه سببا لظهور غيره كقوله في وصف القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] قال أبو علي الفارسي (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها. فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلىاللهعليهوسلم ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلىاللهعليهوسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمدا ، فظهر أن المراد منها هو البشارة