كلاما كليا فقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) أي ولكل عامل في عمله درجات ، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومعنى (مِمَّا عَمِلُوا) أي من جزاء أعمالهم. وقيل : إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قالت الأشاعرة : في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين ، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإشهاده محال. ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده ، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو ، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه ، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة. والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث. ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات. ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى بقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم ، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم. ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي : من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون ، إلا على طريق البدل من فائت ، وقوله : (ما يَشاءُ) أي خلق ثالث ورابع. ثم اختلفوا فقال بعضهم : خلقا آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع ، وقال أبو مسلم : يعني خلقا ثالثا مخالفا للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة. ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها. وقال في الكشاف : المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليهالسلام ، ثم ذكر حال المعاد فقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) قال الحسن : أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، ويحتمل أن يقال : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة.