قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجبا للطعن ، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضا فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائما والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعدا ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل : الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه ، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي ، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية. وكيفية العقد أن يقول : أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلىاللهعليهوسلم عليه وسلم قال : «أخرجوا اليهود من الحجاز» قال الشافعي : هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما. وما روي أنه صلىاللهعليهوسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعا بين الحديثين. وقد بقي في الآية نكتة ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال : لأن قوله (قاتِلُوا) مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية ، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين ـ وهو وجوب قتلهم ـ مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول : لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟.