(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَ) الآية. والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب ، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء وعبادا ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم البتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) الآية. وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة : إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم ، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة : كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر ، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مرارا كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ) أي فهلا حصلت (قَرْيَةٌ) واحدة (آمَنَتْ) تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معاينة العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل : إن «لولا» في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. يروى أن يونس صلىاللهعليهوسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا كما سيجيء في سورة الأنبياء ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل : قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) قالت الأشاعرة : هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة