ينتقل منه فوراً إلى نسق آخر في فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها البياني ( كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ) (١). فإذا جاز للقرآن الانتقال بها ، جاز له الانتقال فيما قبلها كما هو ظاهر ، بل أن هذا اللفظ « المقابر » يفرض نفسه فرضاً بيانياً قاطعاً ، دون حاجة إلى النظر في الفاصلة معه ، أو مع محسنات الفاصلة ، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته ، وشهواته ، ومدخراته ، ونسائه ، وأولاده ، ودوره ، وقصوره ، وخدمه ، وحشمه ، وإداراته ، وشؤونه ، وسلطانه ، وعنوانه ، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر ، والتنايز ، والتنافر ، أقول : إن هذا مما يناسبه لفظ « المقابر » بلاغياً ولغوياً ، فالمقابر جمع مقبرة ، والمقبرة الواحدة مرعبة هائلة ، فإذا ضممنا مقبرة مترامية الأطراف الى مقبرة مثلها ، ومقبرة أخرى ، إزددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً ، فإذا أصبحت مقابر عديدة ؛ تضاعف الرعب والرهب ، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء ، يوافقه ـ بدقة متناهية ـ الجمع المليوني للقبور ، لتصبح مقابر لا قبوراً ، ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سدّ هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ ، فهو لها فحسب (٢).
إذن ليست هذه الصيغة البلاغية في استعمال المقابر مجرد ملائمة صوتية للتكاثر ، وقد يحسّ أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها ؛ نسق الإيقاع ، وانسجام النغم ، ولكن ليس هذا كل شيء (٣).
ولا يعني هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتي ، والوقع الموسيقي في ترتيب الفواصل القرآنية ، فهي مرادة في حد ذاتها إيقاعياً ، ولكن يضاف إليها غيرها من الأغراض الفنية ، والتأكيدات البيانية ، مما هو مرغوب فيه عند علماء البلاغة ، فقوله تعالى : ( فأما اليتم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر ) (٤). فقد تقدم المفعول به في الآيتين ، وهو اليتيم في الأولى ،
__________________
(١) التكاثر : ٣ ـ ٤.
(٢) ظ : المؤلف ، تطور البحث الدلالي : ٧٠ بتصرف.
(٣) ظ : بنت الشاطي ، التفسير البياني : ١|٢٠٧ بتصرف.
(٤) الضحى : ٩ ـ ١٠.