دون قوم بحسب أقساطهم من الذهن وصحة التصور ، فإن ذلك وإن كان يستحق لفظ الإيجاز والإختصار فليس بمحمود حتى يكون دلالة ذلك اللفظ على المعنى دلالة واضحة.
وقد قدّمنا ما ورد في القرآن من أمثلة ذلك وإن كانت كثيرة يطول استقصاؤها ، ومنه قول أمير المؤمنين عليهالسلام : (قيمة كل امرىء ما يحسن) فإن هذه الألفاظ على غاية الإيجاز وإيضاح المعنى ، وظهور حسنها يغني عن وصفه.
وروى عن أبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب أنه قال : دخلت يوما على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى ، ويصعد ويصوب فيه طرفه ، قال : فلما مرّت على ذلك مدة من زمانه التفت إليّ فقال : يا أحمد ، أراك مفكرا فيما تراه مني! قلت : نعم ، وقى الله أمير المؤمنين المكاره ، وأعاذه من المخاوف ، قال : فإنه لا مكروه في الكتاب ، ولكني قرأت فيه كلاما وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة ، فإني سمعته يقول : (البلاغة التباعد عن الإطالة ، والتقرب من معنى البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى) ، وما كنت أتوهم أنّ أحدا يقدر على المبالغة في هذا المعنى ، حتى قرأت هذا الكتاب ، ورمى به إليّ ، وقال : هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا ، قال : فقرأته فإذا فيه : (كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم ، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم فاختلّت لذلك أحوالهم ، والتاثت معه أمورهم) ، فلما قرأته قال لي : إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطاياهم لسبعة أشهر ، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حلّ محلّه في صناعته.
وروي عن المأمون أيضا أنه أمر عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل يعنى به إلى بعض العمال ، وأن يختصر كتابه ما أمكنه ، حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد ، فكتب إليه عمرو بن مسعدة : كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه ، معنّي بمن كتب له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.