أن يكون يفهم معاني الشعر ، ويطّلع على الغامض والظاهر منها ، وكان هذا من أبي تمام أيضا كلاما صحيحا ، وكانا فيه بمنزلة من يقول لصاحبه : لم فعلت ذلك الفعل وهو قبيح؟ فيقول : كما فعلت أنت ذلك الفعل الآخر وهو قبيح ، فيكون كل واحد منهما قد أجاب من طريق الجدل ، وإن كان لم يدل على أنه أصاب وأخطأ صاحبه.
وإذا كان هذا مفهوما فأمثلة الكلام الذي يظهر معناه ولا يحتاج إلى الفكر في استخراجه كثيرة ، وعامة شعر أبي عبادة البحتري عليه. فأما الذي يسأل عن معناه ويفكر في فهمه فكالأبيات التي من شعر أبي الطيب المتنبي ، وقد نعاها عليه الصاحب أبو القاسم بن عبّاد رحمهالله ، وكان يسميها رقى العقارب ، والناس إلى اليوم مختلفون في معاني بعضها ، وكل يذهب إلى فن. ويسبق خاطره إلى غرض ، كقوله :
ذم الزمان إليه من أحبّته |
|
ما ذمّ من بدره في حمد أحمده (١) |
وقوله :
عيون رواحلي إن حرت عيني |
|
وكلّ بغام رازحة بغامي (٢) |
فأما غير ذلك مما قد فهم معناه ولم يختلف فيه إلا أنه مع ذلك لا يخرج إلا بطرف من الفكر فكقوله :
ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا |
|
إلى الموت منه عشت والطفل أشيب (٣) |
وقوله أيضا :
سرب محاسنه حرمت ذواتها |
|
داني الصفات بعيد موصوفاتها (٤) |
__________________
(١) «ديوان المتنبي» (١ / ٥٤).
(٢) الرازحة : الناقة تسقط من التعب والإعياء. ديوان المتنبي (٢ / ٢٤٦).
(٣) «ديوان المتنبي» (٢ / ٢٣٢).
(٤) ذواتها : صواحباتها. سرب : جماعة من النساء.