ويقال له : خبّرنا عنك لو أنك في زمان أمرىء القيس ووقفت على شعره ، أكان رأيك فيه هو رأيك اليوم؟ فإن قال : نعم ، قيل له : ولم؟ وأنت إنما تختاره اليوم وتفضله بقدمه ، فإن كان في ذلك الوقت محدثا عندك فحكمه حكم المحدث اليوم ، وإن قال : بل كنت أذهب فيه إلى غير ما أذهب اليوم ، قيل له : فهل تأليفه على ما كان عليه أم تغير عما كان عليه؟ فإن قال : تغير ، قيل : فهو إذن غير ما ألّفه أمرؤ القيس ، وهذا ما لا يقوله أحد ، وإن قال : بل هو بحاله في الأكثر ، قيل له : فيجب أن يكون بحاله على صفة ثم يصير هو بحاله على صفة أخرى من غير أن يزيد شيئا ، ولا يعقل فيه غير ما يوجب ذلك ، وهذا خارج عن المعقول ، ومعدود في كلام أهل الوسواس.
وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين من حيث سبقوا إلى المعاني والألفاظ ، ونزل الناس بعد على سكناتهم (١) فإنه يقال له : هذا لو ثبت لدلّ على فضل المتقدمين على المحدثين ، ولم يدل على فضل شعر هؤلاء على هؤلاء ، لأنه ليس كلّ من كان أفضل وجب أن يكون شعره أحسن ، وهذا الخليل هو الغاية في الذكاء والفطنة بعلوم العرب وشعره في أنزل طبقة ، وكذلك غيره من العلماء بهذه اللغة ، والأمر في هذا واضح لا يحتاج إلى دليل.
ثم يقال له : ما تريد بالمعاني التي سبقوا إليها؟ أتريد جميع معاني أشعار المحدثين أو بعضها؟ فإن قال : جميعها ، قيل : هذا جحد للعيان لأن الأمر في تفرد المحدثين بمعان استنبطوها لم تخطر للعرب المتقدمين على بال أظهر من كل ظاهر وإن قال : بعض المعاني قيل : أن تلك المعاني التي سبق المتقدمون إليها وأخذها منهم المحدثون لا يخلو الأمر فيها من أن يكونوا نظموها بحالها أو زادوا عليها أو نقصوا منها ، فإن كانوا زادوا فلهم فضيلة الزيادة ، كما كان لأولئك فضيلة السبق ، وإن كانوا نقصوا فالمتقدمون في تلك المعاني خاصة أفضل منهم ، وإن كانوا نقلوها بحالها فتلك هي معاني المتقدمين
__________________
(١) جمع : سكنة وهي ما يسكن فيه.