لا يستحق المحدثون عليها حمدا ولا ذما أكثر مما يجب في الأخذ والنقل ، وهذا كله يرجع إلى الشعراء دون نفس الشعر لأن المعنى في نفسه لا يؤثر فيه أن يكون غريبا مخترعا ولا منقولا متداولا ، ولا يغيره حال ناظمه المبتدىء المبتدع أو المحتذي المتبع ، وإنما هذا شيء يرجع إلى تفضيل السابق إلى المعنى على من أخذ منه.
فأما الألفاظ فإن كان يريد الألفاظ المفردة فتلك ليست لأحد ، والمحدث فيها والمتقدم واحد ، وإن كان يريد الألفاظ المؤلفة فإن المحدثين إذا أخذوا ألفاظا قد ألفها ناظم قبلهم لم يؤثر فيهم أخذهم لها حتى يقال : إنها في شعر الأول أحسن منها في شعر الآخر ، بل تكون بمنزلة قصيدة شاعر ينتحلها آخر ، فلا يقال : إن الانتحال أثر فيها.
فإن كان هذا واضحا فمن أين يدل سبق المتقدمين إلى بعض المعاني على فضل أشعارهم على أشعار المحدثين الذين سبقوا إلى أضعاف تلك المعاني ، لو لا عدم التوفيق وفرط الجهل؟.
وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين من حيث كانوا لم يتكلفوا أشعارهم ، وإنما نظموها بالطبع ، والمحدثون بخلاف ذلك ، فإنه يقال له : ما الدليل على أن أشعار المتقدمين كانت تقع من غير تكلف؟ فإن قال : بهذا جاءت الروايات عنهم ، قيل : الأمر بخلاف ذلك ، والمروى عن زهير بن أبي سلمى أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين ، وكان يسميها الحوليات ، ويقول : خير الشعر الحولي المحكك ، والرواة كلهم مجمعون على هذا غير مختلفين فيه ، وإذا فضلوا شعر زهير قالوا : كان يختار الألفاظ ويجتهد في إحكام الصنعة ، وإذا وصفوا الحطيئة شبهوا طريقته في الشعر بطريقة زهير ، ويروون أن زهيرا كان يعمل نصف البيت ويتعذر عليه كماله فيتمه كعب ابنه.
وهذا كله بمعزل عن الطبع وسهولة النظم ، ولو لم يدل على ذلك إلا قلة أشعارهم ـ فإن ديوان بعض هؤلاء المحدثين مثل أشعار جماعة من المتقدمين في الكثرة ـ لكفى ذلك في تكلفهم الشعر ونصبهم فيه.