ثم يقال له : خبرنا عن هذا التكلف الذي ذكرته ، أهو بيّن موجود في الشعر أو غير بيّن موجود فيه؟ فإن قال : ليس بموجود فيه ، قيل : فلا تفضل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين بشيء غير موجود فيها وإن قال : بل هو موجود في أشعار المحدثين دون المتقدمين ، قيل : أتذهب إلى أن التكلف موجود في جميع أشعارهم أو في بعضها؟ فإن قال : في جميعها. كابر ، لأن من يزعم أن جميع أشعار المحدثين مع السهولة في أكثرها والتيسر متكلفة ، وجميع أشعار المتقدمين مع التوعر في أكثرها غير متكلفة ، فهو جاحد بالضرورة لا تحسن مناظرته ، وإن قال : بعض أشعار المحدثين متكلفة وبعضها غير متكلف ، قيل : وكذلك أشعار المتقدمين ، فقد تساووا عندك في هذه القضية ، وبطل تفرد المحدثين بالتكلف الذي ذكرته.
فأما الاستشهاد بأشعار هؤلاء المتقدمين فقد بيّنا فيما مضى من هذا الكتاب سببه ، وقلنا : إن تقدم الزمان غير موجب لذلك ، وإنما موجبه أن العرب الذين يتكلمون باللغة العربية ولا يخالطون أحدا ممن يتكلم بغير لغتهم هم الذين أقوالهم حجة في اللغة والعرب الذين خالطوا غيرهم من العجم وفسدت لغتهم بالمخالطة لا يستدل بكلامهم ، فلما كان العرب المتقدمون قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه لا يخالطون في الأكثر غيرهم كانت أقوالهم في اللغة حجة ، ولما صاروا بالملك والدولة يخالطون غيرهم ويحضرون ويسكنون المدن لم يستدل بلغتهم ، ولهذا السبب كان أبو عمرو بن العلاء يعيب جريرا والفرزدق بطول مقامهما في الحضر ، وأبطل الرواة الاحتجاج بشعر الكميت ابن زيد والطّرمّاح لأنهما كانا حضريين. وعلى هذا فلو فرضنا اليوم أنّ في بعض القفار النائية عن العمارة قوما من العرب لا يخالطون غيرهم وكانوا قد أخذوا اللغة عن مثلهم وكذلك إلى حين ابتداء الوضع لوجب أن يكون قولهم حجة كأقوال المتقدمين وإن كانوا محدثين ، وإذا كان هذا مفهوما فليس يوجب صحة الكلام بالعربية حسن النظم ، لأن ذلك لو وجب لكان كل عربي شاعرا ، والأمر بخلاف ذلك ، والشعراء من العرب المتقدمين بالإضافة إلى من ليس بشاعر جزء من ألوف ألوف.