يسلبوا ما لم يفد اسم الكلام رأسا ، لا أن يجعلوه أحد قسميه ، على أن الكلام إنما يفيد بالمواضعة ، وليس لها تأثير في كونه كلاما ، كما لا تأثير لها في كونه صوتا ، وأي دليل على أن اسم الكلام عندهم غير مقصور على المفيد أوكد من تسميتهم للهذيان الواقع من المجنون وغيره كلاما ، وليس يمكن دفع ذلك عنهم ولا إنكاره ، وقد وجدت أبا طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي ينصر في كتابه الموسوم بالبرهان في شرح الإيضاح ما يذهب إليه النحويون في هذه المسالة ، فلما تأملته وأنعمت النظر فيه لم أجده معتمدا فيما ادّعوه ، وأنا أحكيه وأتبعه ببيان عدم الدلالة منه ، قال أبو طالب : وهذا اللفظ من الكلام فإنه يكون واقعا على المفيد منه لا على غيره ، ألا ترى أن سيبويه رحمهالله قال : واعلم أنّ ـ قلت ـ إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولا ، وفسر معنى هذا القول ، فإن قلت : ألست تقول لمن نطق وأظهر كلمة واحدة قد تكلم وإن لم يكن ما ذكره جملة؟ قيل : قال : أقول : تكلم ، ولا أقول : قال كلاما ؛ لأن الكلام ما وقع على الجمل ، من حيث ذكرت أن ـ كلاما ـ إنما وقع على أن يكون إسما للمصدر ونائبا عنه ـ وذلك المصدر (١) موضوع للمبالغة والتكثير ، ألا ترى أنك تقول : فعلت كذا وكذا ولفظ كذا يحتمل أن يكون قليلا ، وبابه القلة ، وإذا قال : فعّلت ـ بتشديد العين ـ لم يكن إلا للتكثير ، وزال عنه معنى القلة من أجل التشديد ، فإذا كان الأمر على هذا وكان الكلام جاريا على لفظ أن لفظ ـ فعّل ـ للمبالغة وجب أن يراد به التكثير ، وأقلّ أحوال التكثير والتكرير أن يكون واقعا على جملة ، فإن قيل : فإن الفعل المستعمل من هذا اللفظ لا يكون على وجهين : إذا أريد التقليل كان خفيفا ، وإذا أريد التكثير ثقّل ، كما نجد ذلك في ـ ضرب وضرّب ـ وذلك أنه لم يجىء فيه إلا ـ كلّمت البتة ، قيل : أليس قد تقرر أن لفظ : فعّل ، للتكثير والتكرير ، فينبغي أن توفى حق لفظها ، وكونها على حالة واحدة عندي أبلغ في المعنى ، حتى صارت عندهم لفظة لا تستعمل إلا
__________________
(١) يعني التكلّم.