وقد حدّ الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم ، وليست بالحدود الصحيحة ، فمن ذلك قول بعضهم : لمحة دالّة ، وهذا وصف من صفاتها ، فأما أن يكون حاصرا لها وحدّا يحيط بها فليس ذلك بممكن ، لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد ، وكذا قال آخر : البلاغة معرفة الفصل من الوصل ، لأن الإنسان قد يكون عارفا بالفصل والوصل ، عالما بتمييز مختار الكلام من مطّرحه ، وليس بينه وبين البلاغة سبب ولا نسب ، ولا يمكنه أن يؤلف ما يختاره من تأليف غيره ، والحدود لا يحسن فيها التأول ، وإقامة المعاذير ، وغرابة ألفاظ لا تدل على المقصود ؛ لأنها مبنية على الكشف الواضح ، موضوعة للبيان الظاهر ، والغرض بها السلامة من الغامض ، فكيف يوقع في غامض بمثله؟
وكذلك قول الآخر : البلاغة أن تصيب فلا تخطىء ، وتسرع فلا تبطىء ، لأن هذا يصلح لكل الصنائع ، وليس بمقصور على صناعة البلاغة وحدها ، ثم إنّه سئل عن بيان الصواب في هذه الصناعة من الخطأ ، فجعل جواب السائل نفس سؤاله ، وبهذا أيضا يفسد قول من ادعى أن حدّها الإيجاز من غير عجز ، والإطناب من غير خطل ، وقول من قال : البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام ، لأن هذين إنما سئلا عن حدّ يبين الكلام المرفوض من المختار ، والخطأ من الصواب ، ويوضح كيف يكون الإيجاز مختارا ومتى يقع الإطناب مرضيا محمودا ، فأحال على ما السؤال فيه باق ، وعدم العلم معه موجود حاصل.
وفي البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو ، وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزءيها ، فكلامي على المقصود ـ وهو الفصاحة ـ غير متميّز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره ، فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص ، وخليط لا ينقسم ، وسأذكر بمشيئة الله ما يخطر لي ، ويسنح بفكري في موضعه.