وأقول قبل ذلك : إن الناس قد أكثروا من الدلالة على شرف الفصاحة وعظم قدر البيان والبلاغة ونبهوا بطرق كثيرة وألفاظ مختلفة ، وقد قال عز اسمه : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤]. ولم يكن تعالى يذكر البيان هاهنا إلا وهو من عظيم النعم على عبيده ، وجميل البلاء عندهم ، لا جرم قد قرن ذلك بذكر خلقهم فجعله مضافا إلى المنة بخروجهم من العدم إلى الوجود ، ومن جانب النفي إلى الإثبات.
وأنا أقول قولا مختصرا كافيا : قد ثبت أن الفرق الواضح بين الحيوان الناطق والصامت هو النطق ، وبه وقع التمييز في الحد المنسوب إلى الحكيم وإن كان يفسره أصحابه بغير هذا الظاهر ، فالشرف منه يؤخذ ، والفضل به يقع ، ولا خلاف في أن الصمت أفضل من مطروح الكلام ومنبوذه ، وأوفق للسامع من كلف ذلك ، فقد صار مع هذا التخريج الفصل المميز والفضل اللائح إنما هو للإفصاح والبيان والبلاغة وحسن النطق ، دون ما يسمى كلاما فقط ، ووجب على من أراد أن يخرج من حيز ذلك الصامت الناطق سلوك الطريق الذي به توجد الفضيلة ، وعنه تدرك الميزة ، باجتهاده إن كان لا دربة له ، وتكلفه إن كان لا طبع عنده ، وليعلم أن من شارك الناطق بالصورة ، وخالفه بالمعنى الموجب للشرف ، أسوأ حالا وأقبح صفة من الصامت المخالف في الأمرين معا ، لأن هذا غريب في الموضع الذي وجد فيه آهلا ، ووحيد في المكان الذي خلق به آنسا.
وما أحسن ما قال إبراهيم بن محمد المعروف بالإمام (١) : يكفي من حظ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ، ولا الناطق من سوء فهم السامع ، وهذا كلام مختار في تفضيل البلاغة.
__________________
(١) هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب : زعيم الدعوة العباسية قبل ظهورها. أوصى له أبوه بالإمامة ، هو الذي وجه أبا مسلم الخراساني واليا على دعاته وشيعته في خراسان. كان فصيح اللسان راجح العقل ، يروي الحديث والأدب عرف باسم : «إبراهيم الإمام» توفي سنة ١٣١ هجرية.