وقيل لزيد بن علي عليهماالسلام : الصمت أفضل أم الكلام؟ فقال : أخزى الله المساكتة ، فما أفسدها للسان! وأجلبها للحصر ، والله إن المماراة على ما فيها لأقل ضررا من السكتة التي تورث أدواء أيسرها العيّ.
وأنت إذا سمعتهم يمدحون الصمت ، وينظمون القريض في مدحه ويذكرون جنايات اللسان وكلومه ، ويروون عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم» (١) ويقولون : لو كان الكلام من فضة كان الصمت من ذهب ، وأشباه هذا ونظائره فإنما يريدون الكلام الذي ليس بجميل ، واللفظ الذي لا يستحسن ، فأما أن يكون الحسن يتواتر حتى يصير قبيحا ، والقبيح يتضاعف حتى يكون حسنا ، فهذا شيء خارج عن حد العقل ونظامه ، وليس هذا المذهب مما يمكن وقوع الخلاف فيه ، فيحتاج إلى إطالة في بيانه ، وقد أوردنا لمحة يستدل بها على غيرها ، وإن المذكور في هذا النحو لا ينحصر ولا تستوفى غايته.
وأقول قبل كلامي في الفصاحة وبيانها : إنني لم أر أقلّ من العارفين بهذه الصناعة ، والمطبوعين على فهمها ونقدها ، مع كثرة من يدعي ذلك ويتحلّى به ، وينتسب إلى أهله ، ويماري أصحابه في المجالس ، ويجاري أربابه في المحافل ، وقد كنت أظن أن هذا شيء مقصور على زماننا اليوم ، ومعروف في بلادنا هذه ، حتى وجدت هذا الدّاء قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي ، وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله ، وأشكاهما حتى ذكراه في كتبهما ، فعلمت أن العادة به جارية ، والرّزيّة فيه قديمة ، ولمّا ذكرته رجوت الانتفاع به من هذا الكتاب ، وأمّلت وقوع الفائدة به ، إذ كان النقص فيما أبنته شاملا ، والجهل به عامّا ، والعارفون حقيقته قرحة الأدهم (٢) بالإضافة إلى غيرهم ، والنسبة إلى سواهم.
__________________
(١) أخرجه عبد الرزاق (٢٠٣٠٣) وأحمد (٥ / ٢٣١) وابن ماجه (٣٩٧٣) والألباني في «الإرواء» (٤١٣) وغيرهم.
(٢) الأدهم : الأسود من الخيل ، والقرحة : بياض في وجهه دون الغرة.