ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير ، جلّ كلام العرب عليه ، فلا يحتاج إلى ذكره ، فأما تأليف الحروف المتقاربة فقد قدّمنا في الفصل الرابع مثالا حكي منه وهو الهعخع ، ولحروف الحلق مزية في القبح إذا كان التأليف منها فقط ، وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان ، وبعض النغم من الأصوات.
والثاني : أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزية على غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة ، كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه ، كل ذلك لوجه يقع التأليف عليه ، ومثاله في الحروف : عذب ؛ فإن السامع يجد لقولهم : العذيب اسم موضع ، وعذيبة : اسم امرأة ، وعذب وعذاب وعذب وعذبات ، ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف ، وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط ، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى في تقديم العين على الذال ، لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير ، وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا ، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشّوحط (١) في السمع ، ويقال لمن عساه ينازعنا في ذلك : لو حضرك مغنيان وثوبان منقوشان مختلفان في المزاج ، هل كان يجوز عليك الطّرب على صوت أحد المغنيين دون صاحبه؟ وتفضيل أحد الثوبين في حسن المزاج على الآخر؟ فإن قال : لا يصح أن يقع لي ذلك ، خرج عن جملة العقلاء ، وأخبر عن نفسه بخلاف ما يجد ، وإن اعترف بما ذكرناه قيل له : فخبرنا ما السبب الذي أوجب عليه ذلك؟ فإنه لا يجد أمرا يشير إليه إلا ما قلناه في تفضيل إحدى اللفظتين على الأخرى ، وقد يكون هذا التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق فيحسن أيضا ، كل ذلك لما قدمته من وقوعه على صفة يسبق العلم بقبحها أو حسنها من غير المعرفة بعلتها
__________________
(١) الشوحط : نوع من الشجر يصنع منه القسي.