وأما المهلة فزعم الفرّاء أنها قد تتخلّف ، بدليل قولك : «أعجبني ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب» ، لأن «ثمّ» في ذلك لترتيب الإخبار ، ولا تراخي بين الإخبارين ، وجعل منه ابن مالك (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] الآية ، وقد مر البحث في ذلك ،
______________________________________________________
ذلك تصريح بما يخالف هذا المعنى وذلك ؛ لأن مضمون الكلام على ما أجاب به أن سؤدد الابن سابق لسؤدد الأب وسؤدد الأب سابق لسؤدد الجد ، والسابق للسابق للشيء سابق لذلك الشيء ، فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه وسيادة جده ، وسيادة الأب سابقة لسيادة الجد ، وقول الشاعر قبل ذلك مناف لهذا بلا شك.
وبعد فأنا أقول : لا خفاء في أن القائل بأن ثم تستعمل بدون ترتيب كالواو ، ويقول : بأن ذلك استعمال مجازي ، ولا يشترط في آحاد المجاز أن تنقل بأعيانها عن أهل اللغة ، بل يكتفي بالعلاقة على المذهب المختار ، وقد بينا وجه العلاقة المصححة فيما مر ، وإذا كان كذلك فالسعي في تأويل تلك الأمثلة بما يصح الترتيب فيها نظر في أمر جزئي لا يقتضي بطلان المدعى من أصله فتأمله.
(وأما المهلة فزعم الفراء أنها قد تختلف) فتكون ثم حينئذ مستعملة استعمال الفاء مجازا (بدليل : قولك : أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب ؛ لأن ثم في ذلك لترتيب الأخبار ولا تراخي بين الإخبارين) كما تقدم ضرورة اتصال أحدهما بالإخبار.
(وجعل منه ابن مالك ثم آتينا موسى الكتاب الآية ، وقد مر البحث في ذلك) بما يقتضي أن يكون منه ، حيث قال : إن الجواب الأخير وهو كون ثم لترتيب الأخبار يصح أن يجاب به عن الآية الأخيرة ، وصرح به في «المدارك» فقال : ثم أخبركم أن آتينا موسى الكتاب.
وفي «الكشاف» إشعار به فإن فيه ما نصه : فإن قلت : علام عطف قوله ثم آتينا موسى الكتاب؟ قلت : على وصاكم به ، فإن قلت : كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل التوصية؟
قلت : هذه التوصية قديمة لم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيها ، كما قال ابن عباس : محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب ، وأنزلنا هذا الكتاب المبارك ، قال التفتازاني : ويعني بقوله : على وصاكم به جملة ذلكم وصاكم به ؛ لظهور أنه ليس عطفا على الفعلية الواقعة خبر ذلكم ، وقوله والإيتاء قبل التوصية ؛ لأنها في القرآن المنزل بعد التوراة بمدة ، وأول الجواب يشعر بأن ثم للتراخي الزماني ؛ لأن التوصية كانت قبل التوراة ، وآخره يشعر بأنه للتراخي الرتبي لكون إيتاء التوراة وإنزال القرآن أعظم من تلك التوصية ؛ لاشتمالها عليها وعلى أمثالها مع