وقد أجيز الوجهان في قراءة الحرميين : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) [الزمر : ٩] وكون الهمزة فيه للنداء هو قول الفراء ، ويبعده أنه ليس في التنزيل نداء بغير «يا» ويقربه سلامته من دعوى المجاز ، إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته ،
______________________________________________________
وبنصبه على تقدير فعل ، أي : أعني مثلا ، وجوّز بعضهم في مثله أن يكون منصوبا على إسقاط الخافض أي في نحو كذا.
قلت : وليس ذلك بمقيس في مثل هذا الموضع فلا ينبغي التخريج عليه.
(وقد أجيز الوجهان) وهما كون الهمزة للنداء وكونها للاستفهام. (في قراءة الحرميين) نافع المدني وابن كثير المكي ، قوله تعالى في سورة الزمر : (أَمَّنْ) بميم واحدة خفيفة (هُوَ قانِتٌ) أي قائم بوظائف العبادات (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته ، واحدها : إنو بكسر الهمزة وسكون النون أي كحمل ، قلت : وليست هذه القراءة مختصة بالحرميين كما يشعر به كلام المصنف بل قرأ بها حمزة أيضا.
(وكون الهمزة فيه) أي في هذا الكلام (للنداء هو قول الفراء) من الكوفيين (ويبعده) إما من الإبعاد أو من التبعيد ، والثاني أولى لمناسبة قوله بعد : ويقربه فإنه من التقريب (أنه ليس في التنزيل نداء بغير ياء) هذا فاعل الفعل من يبعده ، أي ويبعد قول الفراء انتفاء وقوع نداء بغير ياء ، فجعل الهمزة هنا للنداء حمل على ما لم يقع له نظير في القرآن مع إمكان السلامة منه ، وهو بعيد ، قال بعض من عاصر المصنف : الإبعاد بمجرد ما ذكر لا يظهر فكم في القرآن من مفرد لم يقع إلا في محل واحد كضيزى والزبانية والعهن ، قلت : هذا لا يشبه ما الكلام فيه ، فإن البحث مفروض في كلمة قرآنية تتردد بين معنيين لأحدهما نظير في القرآن دون الآخر ، كالهمزة في الآية حيث ترددت بين أن تجعل للاستفهام ـ وله في التنزيل نظائر ـ وأن تجعل للنداء ولا نظير له فيه ، فأين هذا من ضيزى ونحوه؟! وفي تفسير ابن عطية تجويز الوجهين ، لكنه أبعد وجه النداء بأنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده ، قلت : وفيه نظر لأن المأمور بالقول في الآية السابقة ـ وهو قل تمتع ـ هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكذا هو المخاطب بقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ) [الزمر : ٥٣] وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) [الزمر : ١١] وقوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) [الأنعام : ١٥] وقوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الزمر : ١٥] فما بعد الآية المتقدّمة وما قبلها مناسب لها لا أجنبي عنها.
(ويقربه) أي : قول الفراء شيئان الأوّل (سلامته من دعوى المجاز) اللازم على جعل الهمزة للاستفهام.
(إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته) ضرورة أنه يستلزم الجهل بالمستفهم عنه ،