ذلك أمر مستحيل فى ذلك التوقيت. كانت هناك تعليمات صارمة تقضى بعدم نقل أى أحد سوى الجنود ، الذين كانوا قد شغلوا بالفعل ثلاث سفن أو أربع ، والتى كانت جاهزة للإبحار ، وكان من بين هؤلاء الجنود ما يزيد على ألف وخمسمائة شخص ، من بينهم عدد كبير من الحجاج الأتراك ، الذين جرى تمريرهم على أنهم جنود ، بعد أن تسلحوا وارتدوا ثياب الجنود ، كل أولئك كانوا ينتظرون الانتقال عن طريق السفن إلى مصر.
بينما كنت أنتظر فى واحدة من المقاهى القريبة من الميناء ، مرت علىّ ثلاث جنازات بفارق زمنى قصير بين الواحدة والأخرى ، وعند ما عبرت عن دهشتى لذلك ، عرفت أن كثيرا من الناس كانوا قد ماتوا خلال تلك الأيام القلائل ؛ بسبب الشكوى من الحمى. عند ما كنت فى بدر ، بلغنى أن هناك حمى خبيثة منتشرة فى ينبع ، لكنى لم ألق بالا لذلك التقرير. وخلال الفترة المتبقية من النهار شاهدت كثيرا من الجنازات الأخرى ، لكنى لم يدر بخلدى أية فكرة عن الأسباب ، إلى أن دخل الليل ، وأويت إلى غرفتى فى الدور العلوى ، والتى كانت تطل على جزء كبير من ينبع ، وهنا رحت أسمع فى كل الاتجاهات ، أصواتا لا حصر لها تقطع القلب بسبب ولولتها وصياحها ؛ وهذه الولولة وذلك الصياح الذى يفطر القلوب يكون مصاحبا لرحيل صديق أو قريب ، وهنا عاجلتنى فكرة راحت تلح على ذهنى ، مفادها أن ذلك ربما كان وباء الطاعون ، حاولت دون جدوى ، طرد مخاوفى والتخلص منها ، أو تصريفها عن طريق النوم ، لكن الصياح المخيف أبقانى مستيقظا الليل بطوله. عند ما نزلت فى الصباح الباكر إلى صالة الخان ، التى كان كثير من العرب يشربون فيها القهوة ، وأوصلت إلى هؤلاء العرب مخاوفى ، وما إن أتيت على ذكر كلمة الطاعون حتى بادرونى بالاستعاذة ، وراحوا يسألونى عما إذا كنت جاهلا بالحقيقة التى مفادها أن الله (سبحانه وتعالى) قد أبعد ذلك المرض عن أراضى الحجاز المقدسة؟ الجدل الذى من هذا القبيل لا يسمح بأى حوار منطقى ، وهنا خرجت من الوكالة ، أو بالأحرى الخان ، ورحت أبحث عن بعض المسيحيين اليونانيين ، الذين كنت قد التقيت الكثيرين منهم فى اليوم السابق ،