أن تقديم احتجاج قوى من جانب الحكومة الإنجليزية كان يمكن أن يقنع الباشا ـ باشا مصر ـ بالانصياع لذلك النداء الإنسانى ، وبذلك تفيد منه كل من مصر وسوريا وكذلك الممتلكات الإنجليزية فى البحر الأبيض المتوسط.
كان الخراب والدمار الناتجين عن الطاعون يرثى لهما فى جدة أكثر منهما فى ينبع ؛ كان متوسط الوفيات بسبب الطاعون فى جدة يقدر بحوالى مائتين وخمسين شخصا يوميا. وترتب على ذلك هروب أعداد كبيرة من سكان جدة إلى مكة ، ظنا منهم أنهم سيكونون فى مأمن من الطاعون عند ما يقيمون فى هذه المدينة المقدسة ، لكنهم كانوا يحملون المرض معهم عند ما انتقلوا إلى تلك المدينة ، كما توفى بعض السكان المكيين أيضا ، على الرغم من أن ذلك العدد كان أقل بكثير بالمقارنة مع الوفيات فى جدة. زد على ذلك أن قاضى جدة ، وهو عربى ، هرب هو الآخر إلى مكة ، وبصحبته العلماء كلهم ، ولكن حسّان باشا ، الذى كان محافظا للمدينة المقدسة فى ذلك الحين ، أمره وهو على فراش الموت ، بالعودة فورا إلى مهام وظيفته ، ومات الرجل وهو فى طريق عودته إلى جدة. كان السوق التجارى الرئيسى فى جدة مهجورا تماما ، وكانت بعض الأسر قد أصابها الخراب والدمار الكامل. ونظرا لوجود عدد كبير من التجار الأجانب فى جدة ، فقد أدى ذلك إلى زيادة مداخيل خزانة محمد على باشا زيادة كبيرة ، وقد عرفت من بعض شهود العيان ، أن المهمة الوحيدة فى ذلك الوقت كانت تتمثل فى نقل جثث الموتى إلى المدافن من ناحية ، ونقل ممتلكات الموتى ومقتنياتهم القيمة إلى منزل آمر المدينة. خلت المدينة المنورة من الطاعون ، وحدث الشىء نفسه فى الأرض الواقعة بين ينبع وجدة.
سآتى هنا على ذكر عادة خاصة بالعرب ، عند ما بلغ الطاعون ذروته فى ينبع ، اقتاد السكان ناقة فى موكب طاف كل أنحاء بلدة ينبع ، وكانت الناقة مزينة بكل أنواع الزينات ، والريش ، والأجراس إلخ إلخ ، وعند ما وصل الموكب إلى المقابر ، ذبحوا الناقة وألقوا بلحمها للنسور والكلاب. كانوا يتطلعون إلى أن يجد الطاعون المنتشر فى سائر أنحاء البلد لنفسه ملاذا فى جسم الناقة ، وأنهم عند ما ذبحوها اعتقدوا أنهم