فى الشارع أن يشق طريقه عنوة عبر هذه الجموع ، لم يتبق فى مكة سوى بعض الشحاذين الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى اتجاه المنازل التى كانوا يظنون أنها ما زالت عامرة بالسكان. كانت الزبالة والنفايات تغطى الشوارع ، ولم يكن أحد يود رفع هذه النفايات. كانت أطراف المدينة عامرة بجثث الإبل النافقة ، وكانت الرائحة المنبعثة منها ، تجعل الهواء نفاذا وخانقا حتى فى وسط المدينة ، الأمر الذى أسهم بالقطع فى انتشار الأمراض السائدة فى هذه المدينة. كانت جثث متعددة ملقاة بالقرب من مستودعات الحج ، وكان العرب الذين يسكنون فى هذه المنطقة من مكة لا يجرؤن على الخروج منها دون أن يدسوا فى أنوفهم قطعا صغيرة من القطن ، وكانوا يحملون هذه القطع مربوطة إلى خيوط تتدلى من أعناقهم (*). لم يكن ذلك نهاية المطاف ؛ نظرا لأن المكيين يبدءون فى ذلك الوقت نزح مجارير وطرنشات منازلهم ، ويتكاسلون على نحو يجعلهم لا يحملون تلك الفضلات الآدمية إلى ما وراء أطراف المدينة ، وإنما يكتفون بحفر حفرة فى الشارع ليضعوا فيها تلك الفضلات الآدمية ، وغالبا ما تكون هذه الحفر أمام أبواب المنازل ، ثم يغطون تلك الحفر بطبقة من التراب والطين ، ومن السهولة بمكان تخيل النتائج التى يمكن أن تترتب على ذلك.
تبدأ فى ذلك الوقت احتفالات الختان ؛ إذ يجرى الاحتفال بهذه المناسبة بعد الحج مباشرة ، أى عند ما يخلو المكيون لأنفسهم ، وقبل أن ينفق الناس المبالغ التى جمعوها من موسم الحج ، لكنى شاهدت طقوس أكثر من موكب للمختتنين. هذه أعداد من الحجاج ، الذين أصابهم الإعياء بسبب الطريق ، أو جراء الإصابة بالبرد نتيجة ارتداء ملابس الإحرام ، كل هؤلاء كانوا عاجزين عن مواصلة رحلة العودة إلى بلادهم ،
__________________
(*) العرب بشكل عام ، بل وحتى البدو أكثر حساسية من الأوروبيين لأقل قدر ممكن من الرائحة النفاذة ، ولعل هذا هو السبب الرئيسى وراء عدم دخول البدو أية بلدة من البلدان ، بدون كمامة أو لثام ، يضعونه على أنوفهم. والعرب والبدو لديهم اعتقاد مفاده أن الروائح الكريهة تؤثر على الصحة وذلك عن طريق الدخول من فتحتى الأنف إلى الرئتين ، ولعل هذا ، دونا عن الإحساس الناتج عن تشمم الرائحة الكريهة ، هو السبب الرئيسى وراء تغطية البدو لأنوفهم بأطراف عمائمهم ، أثناء مرورهم فى الشوارع.