اضطررت إلى البقاء فى مكة شهرا كاملا بعد رحيل الحج ، رحت أنتظر خلاله تهيؤ الفرصة التى تسنح لى بالسفر إلى المدينة المنورة. كان بوسعى السفر بسهولة عن طريق البحر من جدة إلى ينبع ، لكنى فضلت الرحلة البرية. فى تلك الفترة كان أهل الحجاز يستشعرون القلق من ناحية محمد على باشا ، الذى كان يعد العدة للانطلاق من مكة ، بحملته التى يقودها هو شخصيا ضد الوهابيين. كان أهل الحجاز يعرفون أنه إذا ما فشلت حملة محمد على ، فإن بدو الحجاز سيعودون إلى ممارساتهم المفضلة ويقطعون الطريق المؤدى إلى المناطق الداخلية ، فى وجه الرحالة جميعهم ، وقد تعلم بدو الحجاز من التجارب التى مروا بها ، أن الوهابيين إذا ما استولوا على بلاد الحجاز مرة ثانية ، فإن مدينة مكة نفسها لا يمكن أن تنجو من السلب والنهب. كل هذه الاعتبارات أدت إلى تأخير القوافل المتجهة إلى المدينة المنورة. المعروف أن قافلة قوية تغادر مكة فى اليوم الحادى عشر من شهر المحرم ، (الذى يصادف اليوم الثانى من شهر يناير من العام ١٨١٥ هذا العام) أى فى اليوم التالى لفتح الكعبة ، الذى يصادف دوما اليوم العاشر من شهر المحرم ، أو بالأحرى اليوم الذى يطلقون عليه اسم العاشور. فى أواخر شهر ديسمبر ، أصاب السكان الذعر نتيجة لتقرير زائف عن وصول القوة الوهابية ، من ناحية الطريق الساحلى ، قادمة من الجنوب. وعقب الأيام الأولى من شهر يناير من عام ١٨١٥ م انطلق محمد على باشا بحملته من مكة. والتقى الجيش الوهابى ، فى بيسيل بعد ذلك بأربعة أيام ، فى المنطقة المجاورة للطائف ، والتى أحرز فيها محمد على باشا نصرا كاملا سبق أن أوردت تفاصيله فى موقع آخر من هذا الكتاب ، وما إن بلغ هذا الخبر مدينة مكة حتى قامت القافلة المتجهة إلى المدينة المنورة واستأنفت مسيرها فى اليوم الخامس عشر من شهر يناير من العام ١٨١٥ الميلادى.
بعد رحيل الحج السورى ، وبعد عودة القسم الأكبر من الحجاج المتبقين إلى جدة ، انتظارا لفرصة تسنح لهم بالإبحار من جدة عائدين إلى بلادهم ، بدت مكة كما لو كانت مدينة هجرها سكانها. ولم يتبق من دكاكينها سوى الربع فقط ، ولم يعد يرى فى شوارع مكة حتى ولو مجرد حاج واحد من أولئك الحجاج الذين كان يتحتم على الماشى