عهد ، ولا زال عنه من خلق الرجال ما يزول عن المسترجلين والمتعاظمين ، إذا دالت الدولة ونبا الزمان وتقطعت بهم الأسباب ، فهو راض وإن سخط غيره ، وهو سمح وإن تعسر الزمان.
كان مصطفى عبد الرازق مثقفا ، ولكن أية ثقافة هي؟ هي الثقافة الإسلامية التي أفنى العمر في تصويرها والدعوة إليها ، وحمل الأمة عليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد مصطفى المراغي وغيرهم من قادة النهضة وأئمة الإسلام في عصرنا القريب. كان هو المثال الذي تمثلت فيه هذه الثقافة الحية الناهضة الجامعة بين خير ما في الشرق وخير ما في الغرب من تراث الإسلام الطاهر ، وثمرة العقول الناضجة ، وبهذا نعلم مقدار خسارتنا وخسارة الأزهر والإسلام بفقد هذا الرجل. كان مصطفى عبد الرازق مؤمنا ، وإيمانه هو الذي كون له هذه النفس القوية العظيمة ، فإن الثقافة وحدها لا تصنع النفوس ، فنحن نرى بعض المثقفين يتخذون من ثقافتهم طريقا لمجرد كسب العيش ، وهي في البعض الآخر طريق إلى الشرور والمآثم والفتن ، تشقى ولا تسعد ، وتدمر ولا تعمر ، وتهلك الحرث والنسل ، ويبغى بها الناس بعضهم على بعض ، ويسعون بها في الأرض فسادا ، فما أبعد الفرق بين هذه الثقافة وبين كرائم الإيمان!. تلك مادية صرف ، وليس من هذا فقط كان فسادها فقد تنفع المادة وتصلح ، ولكن فسادها كان من أن الشيطان تولى زمامها فصرفها عن غايتها المثلى وأركسها في الشهوات والأهواء. أما مواهب الايمان فهي نفحات قدسية تملأ القلب هداية ونورا ، وسكينة وثباتا ، وأمنا وسلاما ، ومحبة ورضا ، وأملا في الله ومراقبة له ، وعملا لوجه ربك ذي الجلال والإكرام. وهذه هي السعادة التي جاء بها المرسلون وجاهد في سبيلها المصلحون ، وسعد بها المؤمنون ، فإذا هيء لنفس طيبة نبيلة أن تجمع بين هبة الدين الحق والعلم الصحيح ، فقد أشرقت بنور على نور ، ونور الإيمان بالله يملأ القلب ، ونور العلم يهتدي به العقل في الوصول إلى الحق. وكذلك كان فضل الله ونعمته على فقيدنا الكريم عليه رحمة الله :