كان قد أشرف على الخروج من طور الطلب إلى طور العلماء ، وكنت في أول عهدي بالدرس ، لم أنفق في الأزهر إلا عامين أو ثلاثة ، وكان أولئك الرفاق يلقونه في درس الأستاذ الإمام ، ويزورونه ـ إذا أقبل الليل ـ في داره بعابدين. فإذا عادوا تحدثوا عنه وعن إخوته ، وعمن كانوا يلقونه في تلك الدار من أصحاب المنازل الرفيعة ، يملأون أفواههم بهذه الأحاديث ، ويشعرون بأنها ترفعهم درجة عن أمثالهم من الطلاب.
وكان أولئك الرفاق يمتازون من زملائهم بالذكاء ، وحسن التحصيل ، والبراعة في مجادلة الشيوخ. وأكبر الظن أن هذا هو الذي لفت إليهم زميلهم مصطفى عبد الرازق ، فقد كان شديد الحرص على أن يصل أسبابه بأسباب الذين يحبون العلم ، ويمتازون فيه ، كأنه أخذ هذه الخصلة عن والده وعن أستاذه الإمام ، فكلاهما كان يرى حب العلم نادرا في مصر ، ويبحث عن الذين يتصفون به بين طلاب الأزهر وغيرهم من الشباب. وقد ظلت هذه الخصلة ملازمة لمصطفى عبد الرازق حياته كلها ، وقد وصلت أسبابه بكثير من الذين امتازوا في طلب العلم بين الأزهريين وبين المختلفين إلى مدرسة القضاء وبين الجامعيين آخر الأمر ، على اختلاف بيئاتهم وطبقاتهم.
وكان لا يعرف محبا لطلب العلم مخلصا في هذا الحب إلا سعى إليه واتصل به وقربه منه وفتح له قلبه وعقله وداره أيضا. ومهما أنس فلن أنسى تلك الجماعة التي ألفها من بعض أولئك الممتازين من طلاب العلم في الأزهر ، ونظم لها اجتماعا برياسته مساء الجمعة من كل أسبوع. وكانت هذه الجماعة تلتقي في غرفة من غرفات الطلاب في ربع من ربوعهم أيضا بخان الخليلي ، ويلقي أعضاؤها أحاديث في موضوعات مختلفة تدور كلها حول الإصلاح الذي كانت مصر كلها تتحرق ظمأ إليه ، وإلى إصلاح الأزهر خاصة بعد أن شب الأستاذ الإمام في قلوب الممتازين من شبابه جذوة الثورة على ذلك الركود الذي اطمأن إليه الأزهر قرونا طوالا.