وكان افتتاح مصطفى عبد الرازق لجلسات تلك الجماعة هو أشد ما يعجبني ويروعني ، فهو لم يكن يزيد على أن يسمي الله ويقرأ الفاتحة ، ثم تأخذ الجماعة فيما تريد أن تدير بينها من الحديث وأي افتتاح أبلغ وأوقع في القلوب من اسم الله وفاتحة الكتاب المجيد! وقد عرفت بعد ذلك أن مصطفى عبد الرازق كان يذهب في ذلك مذهب الوفاء الصادق لأستاذه الإمام الذي افتتح رسالته في التوحيد نفس هذا الافتتاح.
وإذا كان حب العلم وطلابه المخلصين هو الخصلة الأولى من الخصال التي لزمته حياته كلها ، فخصلة الوفاء هي الخصلة الثانية من خصاله. فقد عرفته محبا للعلم وطلابه كأشد ما يكون الحب وأصدقه وأعمقه ، يسعى إليهم ويقربهم منه ويؤثرهم بالخير وينزلهم من نفسه مكانة الصديق ، وعرفته كذلك وفيا لكل من أحب من الناس لا يفرق بينهم في ذلك مهما تكن الظروف ومهما يبعد بهم الزمان والمكان ومهما تلم الأحداث وتدلهم الخطوب.
كان وفيا للشافعي ، رحمه الله ، لأنه كان يذهب مذهبه في الفقه ، ويرى الوفاء له دينا عليه. ومن أجل ذلك ترجم رسالته وعني بدرسها وترجمتها وقتا غير قصير. وأثر هذا الوفاء للشافعي في حياته العقلية نفسها وفي نهجه الفلسفي تأثيرا شديدا ، وفتح له أبوابا من العلم لم تفتح لأحد من قبله من علماء المسلمين. فدراسته لرسالة الشافعي في الأصول ألقت في روعه رأيا خصبا لم يستغله تلاميذه بعد ، وأرجو أن يتاح لبعضهم تعمقه واستقصاء آثاره الخطيرة في تاريخ الحياة العقلية للمسلمين. فقد رأى أن الشافعي يفلسف في أصول الفقه وما يتصل به من المشكلات المختلفة في الدين واللغة واستنباط الأحكام من النصوص ، فارتقى برأيه هذا إلى من سبق الشافعي من المفكرين المسلمين الذين لم يجادلوا في أصول الفقه وحدها ، بل جادلوا في أصول الدين أيضا ، فأولئك الزعماء القدماء للأحزاب الإسلامية الأولى. حين كانوا يجادلون في مذاهب أحزابهم وآرائها فيمن ثاروا بعثمان ومن تابعوا عليا ومن خاصموه ومن وقف من هذه