الفتنة موقف الحياد ، وحين كانوا يجادلون في مقترف الكبيرة أمؤمن هو أم كافر أم هو يصير إلى منزلة بين منزلتين من الإيمان والكفر أم هو مرجأ إلى الله يقضي في أمره بالحق؟ وحين صاروا من هذا الجدال إلى الجدال في أمور أخرى أعمق من هذه الأمور ، فجادلوا في العدل والتوحيد ، إنما كانوا يفلسفون في مسائل الدين قبل أن يعرفوا الفلسفة اليونانية ، بل قبل أن يحسنوا العلم باللاهوت عند المسيحيين واليهود. ومعنى ذلك أن المسلمين قد أنشأوا فلسفتهم الأولى من عند أنفسهم ، وكانت فلسفة يسيرة سمحة كالإسلام نفسه ، ثم لقيت الفلسفة اليونانية بعد ذلك فأدركها ما في هذه الفلسفة من العسر والتعقيد.
وكذلك جره الوفاء للشافعي ، رحمه الله ، إلى استكشاف مذهب جديد في الفلسفة الإسلامية له خطره العظيم أن عرف تلاميذه كيف يتعمقون وينتهون به إلى غايته.
وكان وفيا للذين عرفهم وحسنت الصلة بينه وبينهم من الأساتذة الفرنسيين حين أقام في فرنسا طالبا للعلم الحديث ، بعد أن أخذ بحظه من العلم القديم في مصر.
عرف أستاذا فرنسيا شابا في إحدى الجامعات هناك واشتد الألف بينهما ، ثم أعلنت الحرب العالمية الأولى ، ودعى ذلك الأستاذ الفرنسي إلى أداء واجبه العسكري ، فاستجاب للدعاء وترك زوجة وليس لها عائل ، فكان مصطفى عبد الرازق يؤثرها على نفسه بالنصيب الأوفر مما كان يصل إليه من المال ، لا يتردد في ذلك ولا ينقطع عنه حتى عاد إلى مصر. والله يعلم ماذا فعل بعد عودته. وقد عرفت ذلك من الأستاذ الفرنسي نفسه ، وقد كلمت فيه مصطفى فغير مجرى الحديث ، وظل وفيا لهذا الأستاذ ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ، ومضى شيء من الوقت ، وخلا منصب فني من المناصب في مصر ، ولم يكن بين المصريين من يستطيع النهوض بأعباء هذا المنصب ، وأخدت الحكومة تبحث عن أجنبي ـ جدّ مصطفى حتى اختير صديقه ذاك لهذا المنصب. وسألته عن عنايته الخاصة بهذا