أن يأخذوا في العمل قبل حضوره. فكانوا ينتظرون وينتظرون ، وربما اضطرهم ذلك إلى بعض الضيق ، ولكنه كان يطلع عليهم بابتسامته الحلوة تلك ، فلا يكادون يرونه حتى يضحكوا له ، ولا يأخذون في عملهم إلا بعد دعابة لا تمل.
وكان لهذه الأناة أثرها في كتابته ، فأنت لا تجد فيما يكتب معنى نافرا أو فجا لم يتم نضجه قبل أن يعرب عنه. وأنت لا تجد فيما يكتب لفظا نابيا عن موضعه ، أو كلمة قلقة في مكانها ، وإنما كان كلامه يجري هادئا مطمئنا كما يجري ماء الجدول النقي ، حتى حين يداعب صفحته النسيم وكنت أشبه له كتابته بعمل صاحب الجواهر : يستأني بها ويتأنق في صنعها لتخرج من يده جميلة رائعة تثير فيمن يراها المتعة والرضى والإعجاب. كان يتأنق في فنه كما كان يتأنق في حياته كلها ، وكما كان يتأنق في سيرته مع الناس جميعا ، سواء منهم من كان يألف ومن كان يجفو. فلست أعرف أن أحدا سخط عليه أو ضاق به أو شكا منه. كان راضي النفس ، يبعث الرضى في نفوس الناس حين يرونه وحين يسمعونه وحين يقرؤون له.
واني لأذكر حديثا له ألقاه في مؤتمر من مؤتمرات المستشرقين في مدينة «ليدن» وكان المؤتمرون كثيرين ، وكانت أحاديثهم كثيرة متنوعة ، وكان رئيس الجلسة مضطرا إلى أن يقدر للمتحدثين عشرين دقيقة لا يعدوها احد مهما يكن حديثه. وقد التزم المؤتمرون ذلك ولم يخالف عنه أحد منهم. فلما أخذ مصطفى في حديثه في صوته ذاك الهادىء العذب الرقيق أصغت إليه الآذان ، ثم صغت إليه القلوب ، ثم اتصلت به النفوس ، وكان يقطع حديثه بين حين وحين ويلتفت إلى الرئيس مبتسما كأنه يسأله : أيمضي في حديثه! فيشير الرئيس إليه : أن نعم ، حتى إذا أتم حديثه كان قد جاوز الأربعين من الدقائق. لم يحس أحد أنه قد أطال ، وأخذ من الوقت أكثر مما كان ينبغي له.
واقرأ هذا السفر الضخم الذي تختلف فيه الأحاديث والموضوعات