مكثت في جامع الكوفة ثلاثة أيام لم أطعم طعاما ، ولم أشرب شرابا ، فلمّا أن كان في اليوم الرابع هزّني (١) الجوع ، فبينا أنا جالس إذ دخل عليّ من باب المسجد رجل مجنون وبيده حجر كبير ، وفي عنقه غلّ ثقيل ، والصبيان من ورائه فجعل يجول في المسجد حتى إذا حاذاني جعل يتفرّس فيّ فخفت فجزعت على نفسي منه ، فقلت : إلهي وسيّدي أجعتني وسلّطت علي من يقتلني ، فالتفت إليّ وقال :
محلّ بيان الصّبر فيك عزيزة (٢) |
|
فيا ليت شعري هل لصبرك [من](٣) أجر |
قال فضيل : فزال عني جوعي وطار عني هلعي ، وقلت : يا سيدي لو لا الرجاء لم أصبر ، قال : وأين مستقرّ الرجاء منك؟ قلت : بحيث مستقرّ [همم](٤) العارفين ، قال : أحسنت والله يا فضيل ، إنّها لقلوب الهموم عمرانها ، والأحزان أوطانها عرفته ، فاستأنست به ، وارتحلت إليه ، فعقولهم صحيحة ، وقلوبهم ثابتة ، وأرواحهم بالملكوت الأعلى معلّقة ، ثم ولّى وأنشأ يقول :
فهام وليّ الله في الفقر (٥) سائحا |
|
وحطّت على سير القدوم رواحله |
فعاد لخير قد جرى في ضميره |
|
تذوب به أعضاؤه ومفاصله |
قال الفضيل : والله لقد بقيت عشرة أيام لم أطعم طعاما ، ولم أشرب شرابا وجدا لكلامه.
أخبرنا أبو القاسم علي بن إبراهيم ، أنبأنا أبو الحسن رشأ بن نظيف ، أنبأنا الحسن بن إسماعيل ، أنبأنا أحمد بن مروان ، أنبأنا إبراهيم بن دازيل قال : سمعت عبيد الله بن عمر يقول :
دخلت أنا ويحيى بن سليم إلى الفضيل نعوده ، فقال الفضيل وجعل يضرب بيده على رأسه : يا فضيل خلقك ، وأفرغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ، وحرسك بعينه ، وصرف وجوه الناس إليك ، وأنت تشتغل عنه ، من أنت ، وما أنت ، ثم شهق شهقة وسقط وغطي بثوبه ، وجعل ينتفض وهو لا يعقل ، وتركناه.
__________________
(١) كذا بالأصل ، وفي المختصر : هرّني.
(٢) كذا بالأصل ، والمختصر : غريزة.
(٣) زيادة لإقامة الوزن عن المختصر.
(٤) زيادة عن المختصر.
(٥) كذا بالأصل ، وفي المختصر : في القر سائحا.