فأقبل يرسف في قيده ، فلمّا دخل عليه سلّم ، فقال الحجاج : كيف ترى قبّتي هذه؟ فقال : بنيت في غير بلدك ، لغير ولدك ، لا يسكنها وارثك ، ولا يدوم لك بقاؤها كما لم يدم مالك ، ولم يبق فان ، وأما هي فكأن لم تكن ، قال : صدقت ، ردّوه إلى السجن ، فإنّه صاحب الكلمة التي بلغتني عنه ، قال : أصلح الله الأمير ، ما ضرت من قيلت فيه ، ولا نفعت من قيلت له ، قال : أتراك تنجو مني ، لأقطعن يديك ورجليك ، ولأكوينّ عينيك ، قال : ما يخاف وعيدك البريء ، ولا ينقطع منك رجاء المسيء ، قال : لأقتلنك إن شاء الله ، قال : بغير نفس والعفو أقرب للتقوى ، قال له الحجاج : إنّك لسمين قال : لمكان القيد والرّتعة (١) ، ومن يكن جار الأمير يسمن ، قال الحجاج : ردّوه إلى السجن ، قال : أصلح الله الأمير ، قد أثقلني الحديد فما أطيق المشي ، قال : احملوه (٢) لعنه الله ، فلمّا حملته الرجال على عواتقها قال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)(٣) ، قال : أنزلوه أخزاه الله ، قال : اللهم (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٤) ، قال : جرّوه أخزاه الله ، فقال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥) ، فقال الحجاج : ويحكم اتركوه فقد غلبني بحجته.
قال القاضي أبو الفرج (٦) : قول الغضبان في وصفه للحجاج كرمان : ماؤها وشل يعني به الماء القليل كماء الأنهار الصغار والجداول التي ليست كالبحور ، والأودية العظيمة يريد الخبر عن قلته كما قال الشاعر (٧) :
أقرأ على الوشل السلام وقل له : |
|
كلّ المشارب مذ فقدت (٨) ذميم |
وقال جرير (٩) :
إنّ الذين غدوا بليّك غادروا |
|
وشلا بعينك ، لا يزال معينا |
__________________
(١) الرتعة : الاتساع في الخصب.
انظر المستقصى للزمخشري ١ / ٣٤١ ومجمع الأمثال ٢ / ١٠٠ انظر فيهما أول من قال : «القيد والرتعة» وسبب هذا القول.
(٢) كذا بالأصل ، واللفظة غير واضحة في ت لسوء التصوير. وفي الجليس الصالح والمختصر : حملته الرجال.
(٣) سورة الزخرف ، الآية : ١٣.
(٤) سورة «المؤمنون» ، الآية : ٢٩.
(٥) سورة هود ، الآية : ٤١.
(٦) يعني المعافى بن زكريا الجريري النهرواني صاحب كتاب الجليس الصالح.
(٧) البيت في تاج العروس (وشل) منسوبا لأبي القمقام الأسدي ، جاء فيه أن الوشل المراد به جبل عظيم بتهامة. وانظر معجم البلدان (الوشل) وفيه البيت من أبيات ، واللسان والصحاح.
(٨) كذا بالأصل والجليس الصالح ، وفي تاج العروس : هجرت.
(٩) ديوان جرير (ط بيروت) من قصيدة يهجو الأخطل. ص ٤٣٨.