وفي هذا اليوم نفسه شوهدت بنت صغيرة عمرها اثنتا عشرة سنة وهي تحمل طفلا بين ذراعيها في الطريق ، وحينما سئلت عنه أجابت بأنها لم تكن تعرف من هو ـ لقد وجدته في الطريق وعلمت أن والديه قد توفيا. وقد كان عمل الطفلة هذا ضربا من العمل الخيري الشائع جدا يومذاك ، وخاصة بين الإناث من الناس ، لكنه كان شيئا مميتا في كثير من الأحايين. إذ ذكرت امرأة أرمنية جاءت تستعطي شيئا من السكر لطفل التقطته على هذه الشاكلة أن جارتها كانت قد أنقذت طفلين بنفس الطريقة بعد أن وجدتهما متروكين في قارعة الطريق. فمات الطفلان كلاهما ثم أعقبتهما هي نفسها. ومن بين جميع الحوادث المؤلمة المقترنة بالحملات الخيرية التي كان يتولاها المستر غروفز أحيانا عند خروجه من البيت ، كان منظر الأطفال العديدين المتروكين على هذه الشاكلة أشد المناظر إيلاما. فقد كان الآباء والأمهات ، حينما يجدون أنفسهم قد أصيبوا بالمرض ، يعمدون إلى أخذ أبنائهم المرشحين لليتم ويتركونهم بالقرب من أبواب البيوت المجاورة «إلى رحمة الغرباء في وقت قضت فيه التعاسة الشخصية على كل إحساس بشري». كما يقول المستر غروفز. ثم يتابع وصفه قائلا : «وكان الكثير من الأطفال المتروكين على هذه الشاكلة لا يزيد عمرهم على عشرة أيام. وقد وجدت في طريقي إلى المقيمية ثمانية أو عشرة من مثل هؤلاء ولم يتيسر أي عون أو أمل انساني لهم ، إلا إذا كان بوسع الذين تركوهم أن يعودوا
__________________
ـ من دهشة ما حل بهم. يكفيك أن الوالدة لفظت ولدها في الطريق. والخلاصة ما بقي أحد ليغسل الموتى ، ولا بقي من يحفر حفائر ليدفنوا الموتى. في ذلك الوقت المهول المرحوم بكر أفندي كان متوفيا فما وجد أحد يغسله ويدفنه ، وبعد ثلاثة أيام مرّ رجل من الغرباء على بيته فشم رائحة نتنة ، فأتى به إلى مسجد يقال له مسجد بير دود فرأى حفرة فرماه فيها ... وبعد عشرين يوما خلص الطاعون وتراجعت الناس وأمر داود باشا من بقي من معسكر الحيطة (الهايته) أن يدوروا في البلد ، وعلى كل من يرى ميتا أن يرميه في الشط مقابل أجرة تساوي مئة قرش. فتفرق هؤلاء المأمورون في البلد ، وبقوا يسألون الناس عن الأموات الذين باقين على وجه الأرض من غير دفن فيحملونه ويرمونه في الشط ..» (تلاحظ ركاكة اللغة).