وفي أثناء هذا الصراع الرهيب مع الموت كانت المناظر المحيطة ببيت المستر غروفز وأسرته على مقدار كبير من الكآبة والعسر ، مع كل ما حبتهم به العناية الإلهية من تحاشي المرض الحقيقي وأخطاره. فمن الدربونة الصغيرة المقابلة لهم كانوا قد شهدوا بأم رأسهم خمسة وعشرين جثة تحمل إلى الخارج ، وكانوا على علم بوجود عدة أشخاص مرضى فيها. وفي إحدى الدور التي كانت تحتوي على ثماني أنفس لم يبق سوى شخص واحد على قيد الحياة ، وعلى الشاكلة نفسها لم يبق من الثلاثة عشر شخصا الذين كانت تضمهم دار أخرى بقربها سوى نفر واحد. ولم تكن هذه حوادث فريدة في بابها بأي حال من الأحوال. فمن مجموع الثمانية عشر خادما وسپاهيا الذين كان الكولونيل تايلور قد تركهم لرعاية المقيمية لم يبق في نهاية الشهر غير أربعة ، وحتى هؤلاء أصيب اثنان منهم بعد ذلك ففارقا الحياة. وكان في المؤسسة التابعة للمستر غروفز خمسة معلمين للغتين العربية والأرمنية ، فأتى الموت على كل واحد منهم وأزالهم من الوجود. ومع كل هذا السيل الجارف من الموت الذي كان يكتسح الناس زرافات ووحدانا ، لم يقلل المرض من ضراوته ولم يتناقص عدد الوفيات اليومية. فقد تجمع السكان الباقون في بقع أضيق فأضيق من المدينة بتأثير الغرق الذي داهم الكثير من محلاتها ، فهيأ ذلك لسهام الطاعون ونباله أهدافا أوضح ومقاتل أسهل نيلا. ولا غرو فإن تدفق السكان من المناطق المغمورة بالماء على البيوت الملوثة من قبل قد هيأ للوباء ضحايا جديدة ، فبقيت جثث الموتى وهي تنفث سمومها في جميع باحات البيوت وفسح المدينة ، وتملأ الشوارع فتربك الحالة فيها.
ولم يكن هذا القضاء المخيف على الأرواح البشرية مقتصرا على المدينة وحدها ، فإن قافلة كبيرة إلى دمشق كانت قد غادرت بغداد في بداية أمر الطاعون ، لكنها أخذت العدوى المميتة معها وصادفت في طريقها بالإضافة إلى ذلك عدوا آخر لا يقل عن الطاعون قدرة على الفتك والدمار ، وهو الفيضان. فالتجأت إلى بقعة من الأرض مرتفعة ارتفاعا نسيبا وبقيت محاصرة هناك لمدة أسابيع ثلاثة كان الماء خلالها يضيق الخناق عليها باستمرار ويقلل