الجشع الإنساني من حمل سكان المناطق المجاورة على الالتجاء إلى البلدة ، كان من شأنه أن يكسو هيكل بغداد الخاوي بمقدار من السكان الذين كانوا ، على قلة عددهم بالنسبة لما كانوا عليه من قبل ، كافين ليصبحوا أهدافا جديدة لهجمتين جديدتين من هجمات الطاعون ويقدموا لهما خمسة آلاف ضحية في الأولى وسبعة آلاف في الثانية (١). وكان السبب في وافدة الطاعون الأخيرة التي انتهى أمرها في شهر أيار الأخير طمع حاكمها الحالي الذي بدلا من أن يمنع كل اتصال ممكن مع كرمنشاه لتفشي الطاعون فيها في مثل هذا الوقت ، عرّض المدينة لوافدة وبائية كان يمكن أن تضاهي وافدة ١٨٣١ م بفظاعتها ، برغم تحذير المقيم البريطاني وتذكيره بالعواقب الوخيمة ، لأنه كان يطمع بالإتاوة التي يقبضها من الزوار الإيرانيين. وسواء أكانت طبيعة الوباء نفسها على جانب أقل من الضراوة في هذه المرة ، أم كان الغذاء المتوافر لها قد تناقص مقداره ، لأن التربة التي ينهكها الحاصل الزراعي يندر أن تغل في أعقابه حاصلا وفيرا آخر ، فقد كانت الوفيات في هذه المرة أقل من وفيات الطاعون الأول بكثير. ومن أسباب هذا الفرق المقترن بالحظ تيسر الحرية للناس في الهرب إلى الخارج هذه المرة عند أول ظهور المرض. لأنهم لم يصادفوا أية معارضة لا من الإنسان ولا من المياه الفائضة عند خروجهم ، فاستغلوا هذه الحرية إلى أقصى حدودها. ولذلك هربت مناطق وجماعات بأسرها إلى الخارج ، مع جميع متاعها ، عند أول ظهور المرض. فخرج اليهود كلهم على الأخص ، وكان من نصيب الخارجين جميعهم أن شملتهم العناية الإلهية برعايتها فلم يمسسهم ضرر. أما في حادثة الطاعون الأولى فإن الباشا نفسه كان قد تدخل في الأمر ومنع الناس من الحركة بأمل الحيلولة دون ما حصل من انتشار الذعر والهلع بين جميع طبقات الناس عند أول ظهور الوباء في المدينة ، ثم جاء الفيضان بعد ذلك فحاصرهم حصارا تاما. وقد بذلت نفس المحاولة في البصرة كذلك ، حيث أغلقت أبواب المدينة فكانت عواقب ذلك شيئا على
__________________
(١) لا بد أن تكون الطواعين الثلاثة هذه هي التي يتحدث عنها جمهور البغداديين اليوم فيضربون المثل بها في شتى المناسبات.