مجهولا. ورحل المجد عن هذه الأرض ، فاختفت الروحية التي كانت توحي لأبنائها وبناتها العزم والقوة لتهيم في مجالات أخرى ، وعلى هذا فلنترك تربة زبيدة ونلتفت إلى مناظر أخرى.
ومن الأشياء التي لا بد ان تلفت نظر الغريب في تجوالاته ببغداد ، إلى جانب العدد الكبير من الأعراب الذين يلوحون له على الفطرة ، كثرة الحمير البيض (المطايا) والعبيد السود القبحاء الذين تعج بهم الشوارع والأسواق جميعها. فإن الناس يقبلون هنا إقبالا شديدا على الحمير البيض ولا يستبدلون هذا بأي لون آخر. ولذلك فمن النادر أن تجد شخصا له منزلة محترمة ، رجلا كان أو امرأة ، وهو يركب غير هذا الحيوان الأبيض ـ عدا الطبقات العسكرية التي تحتقر أي شيء يقل عن الجواد العربي الأصيل. ويفضل المثقفون ورجال الدين هذا الحيوان الذي تكثر فيه الوداعة ، وكذلك تفعل السيدات كلهن. ولذلك فإن عدد الحمير التي تسخر للركوب هنا كبير جدا. ولما كان نساء الطبقات الرفيعة في المجتمع نادرا ما يتحركن من دون أن يصحبهن عدد كبير من نساء الحاشية اللواتي يركبن على الشاكلة نفسها ، فإنهن حينما يقمن بزيارة البيوت المجاورة يصبح صوت الجوقة النهيقية شيئا غير محتمل. وهذا النوع من الحمير ينتمي إلى عرق (١) أصيل خاص ، ويباع بأثمان عالية جدا ـ فلا يعد مبلغ الأربعين أو الخمسين پاونا استرلينيا ثمنا غير شائع بالنسبة لحيوان من هذا النوع كبير الحجم ، أصيل العرق ، دقيق الخطى ، وترخّت هذه الحيوانات ترخيتا بديعا ، ويشق منخر كل منها ، كما يصنعون في إيران أيضا ، لأجل ان يصبح أطول نفسا في العادة ـ أن نفس هذه الحيوانات يعلم الله على جانب كاف من الطول حينما تأخذ بالنهيق!
ويشيع الولع بالعبيد السود هنا بقدر الولع باقتناء الحمير البيض ، وإذا ما أردنا أن نحكم بالمظاهر نجد أن قيمة هؤلاء تزداد بازدياد القبح الذي يتحلون به
__________________
(١) وهو عرق الحمير الحساوية المعروف الذي ظل يستعمل للركوب كما تستعمل الخيول إلى ما قبل سنوات في بغداد.