والدراويش الذين يدعون بعدم تأثير النار فيهم ممن ألمعت إليهم آنفا.
أما الصنف الثاني من الدراويش الذين أطلق عليهم اسم المتوطنين ـ أي المنتشرين بين الناس بكثرة فهم موجودون في معظم المدن الشرقية. وهؤلاء يظهرون بمختلف المظاهر والألبسة التي تناسب زيهم ، وأحوالهم ، وطلاقتهم في الكلام ، وحركاتهم التي تتطلبها الأغراض المختلفة التي يحصلون على الصدقة والإحسان بواسطتها. ولذلك يختلف مظهرهم ، والهيئة التي يظهرون بها ، اختلافا كبيرا على قدر الإمكان. فقد يكون أحدهم مثلا رجلا أنيقا نحيل الجسم ، ذا بشرة سمراء داكنة ، ولحية سوداء ، وشاربين مشذبين بترتيب ولطف ، يلبس في رأسه عمة قطنية بيضاء ، وسترة من الوبر البني اللون ، حافي القدمين ، يتوكأ على عكاز في يده ، وله عينان لا تريان النور لكنهما غائرتان في وجه لا يزال معبرا ، يتقدّم بطلعة منتصبة ومشية حذرة ، وبصوت عذب يرتل قائلا «أنتم أيها المدينون لله! أعطوني من نعمته يفك لكم ديونكم! أنتم أيها المثقلون بالغم والكدر أدخلوا السرور على عبده يخفف الله من أحزانكم». فيخلط مستمعوه صدقاتهم بالهزء والسخرية ، ويتسلمها الدرويش بصبر وتحمل ويعود بها إلى زاويته الخاصة في المسجد التي تعد مكانه ومأواه الذي يجري فيه تأملاته ويؤدي صلواته ، ويستعيد استعمال عينيه حتى تستدعي الضرورة من جديد أن يستدر عطف المسلمين عليه.
وقد يكون الثاني رجلا بدينا قصير القامة مرتب الهندام ، له لحية كثة قصيرة قد تطرق الشيب إليها ، ووجه ممتلىء ، وعينان صغيرتان رماديتان زائغتان يحجبهما حاجبان كثان ، وفم بشفيتن ضخمتين ، وأنياب كبيرة عارية تصلح لأكل الأشياء جميعها. ويرتدي ملابس قطنية بيضاء تغطيها عباءة عربية من الصوف الأبيض ، فيقف على دار يبدو عليها أثر النعمة والثراء فينفخ من رئتيه العميقتين أقوالا في مدح النبي تختلط بوصايا تأمر بالبر والإحسان والتصدّق على العاري والجائع والمحتاج. فلا يخطىء المرمى ، إذ يخف إلى الباب اثنان من العبيد السود ، ذكر وأنثى ، لغرضين مختلفين ـ أولهما لطرد المتطفل وإبعاده عن الباب وثانيهما لتقديم المساعدة اللازمة إليه ، فيختلط