كان يمر في دور الدراسة والتعلم ليتبوأ مكانا مناسبا في عالم الملالي استولت عليه الرغبة في السفر والتطويح في أرض الله الواسعة ، فترك بيته وأهله برغم توسلاتهم في العدول عن ذلك. وقد كان شابا طويل القامة قوي البنية جميل المحيا ، ذا بشرة بيضاء وعينين سوداوين ، فشرع في رحلاته مؤملا نفسه بالآمال المعسولة والمستقبل المملوء بالمسرات والعجائب. وبعد تجوالات طويلة أجراها بين المغاربة ، سحرة العالم الإسلامي المعروفين ، وبينما كان في طريقه إلى بلاد الجوغي والبراهميين في الهند ، دخل بغداد فنزل في المستنصرية ، وهناك حضر المحاضرات الدينية التي كانت تلقى بوجه خاص على طلاب المذاهب المختلفة ، على أن عقله ظل غير مكتف وذهنه غير مقتنع. وقد شعر في قرارة نفسه بأنه متفوق على من كان يحيط به من الناس ، وأخيرا تراجع وهو قلق لا هدف له إلا الاعتكاف في مسجد مجاور كان يقضي فيه أياما عديدة متوالية من دون أن يتذوق طعم الأكل أو يتناول شيئا منه.
فحاول إمام المسجد ، وهو متأثر بهذا التدين الفريد ، أن يحثه على الخروج والسعي وراء القوت الذي يقوم به أوده. لكن نتيجة المقابلة أدت به إلى الاعتقاد بأنه أمام ولي من أولياء الله ، وأعلن نفسه من أتباع هذا الناسك المتعبد الذي عمل على تزويده بالقوت والطعام ، واجتذاب الناس إليه.
وقد دبر مأمون أمر الحفاظ على خداع الناس بطبيعة وجوده المحاط بالمعجزات ، بتناول شيء قليل جدا من الذخائر الوفيرة التي صارت تتيسر له ، فكانت شهرته تزداد يوما بعد يوم. وأخذ النساء العقيمات يتوسلن ببركاته وتعاويذه ، وصار العميان يقصدونه ليرد لهم بصرهم ، والعرج ليعيد إليهم قابلية استعمالهم أطرافهم. كما أخذ الكيميائي الفاشل يستجدي عونه في الحصول على أكسير فعال مفيد ، وراحت النساء المهجورات يقبلن أقدامه ليزودهن بأشربة الحب الجذابة ، وصار الراكضون وراء الخوارق العجيبة ينتظرون منه المعجزات التي تعزى إلى السحر عادة ، كالركوب في الهواء ، والقدرة على كشف الأشياء غير المرئية ، وتنفس النار ، وقلب الإنسان إلى طير أو حيوان من ذوات الأربع ، والتراب إلى رمل من الذهب ، والحصى إلى نقود. لكن أغرب