كانت تتصاعد من المبخرة ، وقد قرأ بلهجة غائرة الابتهال والدعاء التالي : «إلهي يا رب العالمين أجمع ، يا مدبر الطبيعة والأكوان الذي يخترق عبيره المادة كلها امنحني الآن شيئا من طاقتك وقدرتك». وبهذه الكلمات تقدم نحو الأشخاص المشتبه بهم الذين أصبحوا في هذه المرحلة فريسة لعاطفة جامحة. وقد كانت الاعراض البادية على كل منهم تختلف اختلافا بينا ، لكنها كانت تلفت النظر. فقد ظل أحدهم واقفا بانتصاب تام ، لكن ذراعيه المتيبستين الملتصقتين بتشنج إلى جنبيه ، وفمه المغلق المزموم بشدة ، وعينيه الجامدتين ، وجلده الناشف ، والدائرة الزرقاء المحيطة بشفتيه المضغوطتين اللتين لا لون لهما ، كانت كلها تدل على نزعه العقلي المرير. وكان الآخر يتلوى كالحية ، وتتحرك كل عضلة فيه بتشنج غير يسير ، بينما كانت تتساقط قطرات العرق من جسمه. وكان كل طرف ونهاية في جسم الثالث يتحرك حركة غير مسيطر عليها ، فكانت شفتاه تتحركان بحركة لا إرادية وعضلات جلدة رأسه تتلوى كأنها كانت تسحب بعنف. أما الرابع فقد خر ساقطا على الأرض والزبد يملأ فمه ، وراح يتمرغ بحركات مخفية ، ويبذل جهودا غير مثمرة على ما كان يبدو للتكلم بوضوح.
وقد كان من شأن النزع الذي أصيب به الفاعلون ، والشعور المسيطر على المشاهدين الآخرين ، أن ينذر مأمونا بأن ينهي المشهد ويختمه. ولذلك أخذ التاجر جانبا وقال له : «الق حجابا محسنا على الجريمة التي ثبت وقوعها بمثل هذا الوضوح وعوقب مقترفوها بهذه الشدة. ودع كل رجل يرمي في منتصف الليل ملء حجر واحد من التراب في زاوية باحة الدار تحت النجم القطبي ، وعند طلوع الشمس ابحث هناك عن المال المسروق منك».
ومن المحتمل أن يكون ذلك البحث عن المال قد اقترن بالنجاح ، لأن شهرة الولي القديس ، والاعتقاد بقدرة تعزيماته وتعاويذه ، قد ازدادت ازديادا عظيما بحيث إن الرجال المرموقين في حكومة الولاية كانوا في عداد أتباعه المخلصين. وصارت أسرار السمياء ، والتعاويذ ضد الجروح أو التعرض للكوارث والنكبات ، أو خسارة العطف الملكي أو وظيفة من الوظائف ، تطلب منه بشوق وحماسة مع الثقة التامة بتأثيرها وشدة مفعولها ، وكانت تقدم له