لأحصل منها على منظر عام للريف المحيط بها طرق سمعي صوت نسائي يندب بنحيب عال ، فوجدت عن بعد بين القبور امرأة تجلس بالقرب من قبر حديث البناء كانت تبكي عليه وتعول بإشارات وحركات تنم عن أعمق الألم وأمضه. فذهبنا لنتبين أمرها ، لكنها كانت على درجة من الانغماس في حزنها وأساها بحيث إنها لم تعبأ بنا ، إذا كانت قد أحست بوجودنا حقّا ، الأمر الذي كان من المحتمل أن لا يقع لأننا تقدمنا إلى حيث كانت تجلس. وقد كانت مشغولة بتزيين القبر بطريقة غريبة ، شائعة بين الفقراء ، وذلك بوضع أحجار صغيرة بيضاء اللون بأشكال غريبة فوقه. ولكنها بين حين وآخر كانت تكف عن ذلك فتحرك يديها بما يدل على اليأس والقنوط ، وتتفوه بنبرات مهووسة من الغم والألم الممض الذي كان يدل على شيء غير متناه من المحبة والتعلق. وقد أثر حزنها وتدفق عاطفتها حتى على الخدم الذين كانوا يسيرون من ورائي ، وهم القساة القلوب في الأحوال الاعتيادية. لأن ذلك كله لم يكن شيئا يراد به التصنع ، أو الظهور بمظهر الحزن أمام الناس. فقد كانت المسكينة تجلس هناك وحيدة في تعاستها ، بعيدة عن سمع أي كان من الناس وبصرهم ، عدا المارة العابرين مثلنا ، وهي تصب حزنها في أذنه هو وحده ، الذي وجد من المناسب أن ينزل بها البلوى.
فقال أحد الخدم «إن هذه المسكينة لا بد أن تكون قد فقدت زوجا أو ولدا كان معيلها الوحيد ، لأنك ترى يا سيدي ان مثل هذا الندب لا يمكن أن يصدر إلا ممن فقدت وحيدها. أما الذين لهم عوائل فيمكثون في بيوتهم ، وهناك يبكون ويندبون».
وفي هذا اليوم طلبت إلى الباشا أن يأذن لي بالسفر لعدم وجود ما يدعو إلى استمرار مكوثي في عاصمته ، ولكونه هو المسكين كان منشغلا جدّا بشؤونه الخاصة بحيث لا يستطيع أن يعير التفاتا كبيرا لضيوفه. على أنه كان قد اغتنم الفرصة وأشار إلى خادمي من طرف خفي قبل هذا عما إذا كانت لدي أية بندقية أو مسدس أريد مبادلتهما بخيل أصيلة ، فإنه كان يسره أن يفعل ذلك. ولما لم يكن لدي أي مانع من زيادة عدد خيولي ، بإضافة حصان كردي أصيل