الحالتين. ومع ذلك فإن هؤلاء البدو قد تحمصت بشرتهم إلى حد السواد التام. وأؤكد لكم أنهم يكونون بهذا أشكالا فريدة في وحشيتها حينما يطوفون فوق جيادهم النحيفة ، فتتطاير ملابسهم الفضفاضة في الهواء وتهتز رماحهم فوق أكتافهم. وإن المرء قد يعتبرهم حتى في داخل المدن أشخاصا تخطر ملاقاتهم ، لأنهم يندفعون في سيرهم بهيئة الاستقلال الفظ. فإن العربي يعتبر نفسه في كل مكان سيد الأرض التي يحل فيها ، وهو في الحقيقة يكاد يكون كذلك هنا أيضا. ثم إن صراخهم وهديرهم حينما يمرّون قد يؤديان بالمرء إلى الاعتقاد بأنهم يهمون بسلب كل من يصادفونه في الطريق. لأن العربي لا يتكلم إلا بأعلى (١) صوته ، ولذلك يرتفع صوتهم أثناء الكلام بحيث يخيّل للغريب أنهم يتشاجرون فيما بينهم. وقد أدّت هذه الخصلة في بعض الأحيان إلى حصول أغلاط مضحكة. فقد كان أحد النوابين المقيمين في بغداد متشبعا بالخوف من الهيضة (الكوليرا) بحيث لا يخرج من البيت إلا وهو يحمل معه الأدوية الواقية. وقد حدث ذات يوم بعيد وصوله إلى هنا أنه بينما كان جالسا في إحدى المقاهي أو الأماكن العامة الأخرى ، طلب إلى مغنّ كان موجودا فيه أن يسلي الناس بالغناء. لكن المسكين وجد صعوبة في ذلك وأخذ يخرج أصواتا مبحوحة وأنغاما غريبة ربما كانت تبعث الفزع في نفوس البعض منهم. غير أن النوّاب الذي كان يجهل لغة البلاد تصور أن الرجل قد أصيب بالهيضة الوبيلة التي كان يقال إنها قد بدأت تصيب بعض الناس في بغداد بشرها. فهجم النواب عليه والأدوية بيده ، وأخذ يقنعه بتناول الحبوب والشرب مما كان في القنينة التي كانت معه فرفض المغني المتعجب ذلك وهو يستغيث بقوله : «لا لا لا» لكن النواب ظل يلح عليه بتناول الدواء حتى أفهم بحقيقة الأمر.
غير أن العرب ليسوا وحدهم هم الذين يصخبون بمثل هذا الصخب ، وإنما هو شيء عام في بغداد التي تعد من بين جميع الأماكن الأخرى التي
__________________
(١) لا شك أن صاحب الرحلة قد تسرع في تعميمه هذا أيضا فليس من المعقول أن يقيس المرء قوما كلهم ببعض الأشخاص الذين يرتفع صوتهم في السوق في بعض الحالات.