مشروع كان يشغل حيزا كبيرا من تفكيره منذ أن لقيته.
كنا ذات مساء نخيم قرب المحطة رقم (٨) بعد يوم من السير قطعنا فيه عشر مراحل ، وكانت مشاهد الغروب تتكرر متطابقة في التفاصيل ؛ فالشرق / ١٤ / كما نعلم ليس بلد التنوع ، ما فعلناه البارحة سنفعله غدا وبعد غد ، وهكذا دواليك في كل يوم حتى آخر الزمن. كان الليل صافيا صفاء لا نجده إلا في سماء مصر ، كانت النجوم تلتمع كأنها جواهر مرصعة باللازورد ، وكأنها رمز شعار بيزنطة القديم قبل أن يؤول إلى العثمانيين في إستانبول. كان القمر هلالا يتطاول بجلال إلى قبة السماء. وكان عواء الكلاب في وسط الظلمات يدل على وجود مضارب بدو في الجوار ، وإن مثل ذلك الجوار كان يثير قلقا وخوفا مسوغين في الماضي ، وهو اليوم بلا أدنى خطورة ؛ مما جعلني أنام في خيمتي دون أي قلق ، ولم يزعجني إبان نومي أي عارض مقلق.
ولم تكن القافلة في اليوم التالي جاهزة للمسير إلا في وقت متأخر عن اليوم السابق ، وكانت الشمس قد ارتفعت عند ما لاحظت إلى يساري قصر دار البيضا ، كان محاطا بالأبراج ولا يختلف بقليل أو كثير عن القصير الصغير الذي كان يبنيه الإقطاعيون في القرون الوسطى (في أوروبا). إن قصر العزلة هذا ، هو أيضا أحد أمكنة إقامة عباس باشا ؛ ذلك التركي المتوحش ، والمتعصب الذي كان يمقت المدن وخصوصا تلك التي يقيم بها القناصل الذين كانوا في رأيه أناسا مزعجين ، وكان يهرب منهم بقدر ما كان جده محمد علي يتقرب منهم ، ومع ذلك فإنه كان يظن أنه ليس بعيدا عنهم بقدر كاف. ولذلك كان يمقت الإسكندرية مقتا كبيرا ، ولا أظن / ١٥ / أنه زارها مرة واحدة خلال فترة حكمه : وكان يقول لكي يسوغ غيابه عنها : إنه «يرى فيها كثيرا من القبعات».
وكانت القاهرة نفسها تبدو له موبوءة بالطاعون الأوروبي ، ولكي يتلافى العدوى قام بإنشاء قصر العباسية على حدود الصحراء ، وكنا قد رأيناه ، خلال مرورنا ، ولكن ذلك القصر المنعزل سيبدو له بعد قليل شديد الاقتراب من القاهرة ، وانتهى به الأمر إلى الالتجاء إلى حضن الصحراء. كان يعيش هنا مع أكثر المقربين إليه ، ويا للمقربين! كان على الدوام يؤجل أكثر الأعمال