الذكريات الجليلة التي تستدعيها تلك الجبال تطبعها بطابع هو أكثر مهابة وجلالا. وصلنا في ظهيرة اليوم الرابع من الرحلة إلى أبواب السويس ، وقبل أن نتجاوز باب المدينة ، وندلف إلى الأماكن المأهولة وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بأن الرحلة في كل مراحلها ، وساعاتها ، لم تحدث في نفسي أيا من تلك المشاعر المثيرة / ٢٢ / والاحتفالية التي شعرت بها بعد ذلك في صحراء النوبة الكبرى وفي صحراء السودان التي كانت تغريني بجدتها المثيرة على الدوام ، ولكنها لم تشعرني بالبرود وعدم الاهتمام.
إن لخيبة الأمل هذه أسبابا عدة : أولها أن جبل المقطم يقطع صحراء السويس طوليا ، فيحجب أفق الرؤية من هذا الجانب ، ولا يتنوع إلا من الجانب الآخر تنوعا محدودا بسبب الهضاب التي تنتشر فيه.
إن مثل هذه المناظر ، ليست مصدر لذة تأملية ، ولا مصدر شعور باللامنتهي ، الذي يمكن لمنظر الرمال الممتدة بلا حدود ، كما هي الحال مع البحر بلا شاطىء أن يبث الروح فيها وحده. وإذا كان المكان ضيقا ، فإن الشعور بالوحدة هو الآخر كان غائبا ، وقد قلت في البداية : إن بعض المخترعات التي أصبحت قديمة بالنسبة إلينا ، وإن بعض وسائل الترفيه الشائعة في الحياة الغربية التي لا نأتي إلى هنا بحثا عنها ، كل ذلك ، غزا هذه الصحراء وأفسدها ، وغيّر حياتها البدائية : نشم رائحة الإنسان فيها ونراه كثيرا ، ليس إنسان الخيمة والحرية ، ولكن إنسان الوكالات الأجنبية والمصانع. وليس في ذلك أي جوانب مغرية ، وليس بالمستغرب أن تفسد عليّ تلك الصورة غير المناسبة أولى خطواتي في هذه الطبيعة الموحشة. أرجع مع ذلك إلى الحديث عن السويس. / ٢٣ /.