يا أهل الكتاب لا معارضة لكم فيما معكم حيث أخذت الجزية منكم ، فلمّا عرف أولئك أن أموالهم معرّضة للنهب سألوه أن يحتملهم إلى سلطانهم فأجاب سؤالهم وتلا (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١) فقلنا للناخدا والربان وهو الدليل : هؤلاء قوم قد عاشرناهم وصاروا لنا رفقة وما يحسن لنا أن نتخلّف عنهم ، أينما يكونوا نكن معهم حتّى نعلم ما يستقر حالهم عليه. فقال الربان : ما أعلم هذا البحر أين المسير فيه واستأجرنا ربانا ورجالا وقلعنا القلع وسرنا ثلاثة عشر يوما بلياليها حتّى كان قبل طلوع الفجر فكبّر الربان فقال : هذه والله أعلام الزاهرة ومنائرها وجدرانها ، إنّها قد بانت ، فسرنا حتّى تضاحى النهار فقدمنا إلى مدينة لم تر العيون أحسن منها ولا أخف على القلب ولا أرق من نسيمها ولا أطيب من هوائها ولا أعذب من مائها وهي راكبة البحر على جبل من صخر أبيض كأنه لون الفضة ، وعليها سور إلى ما يلي البحر ، والبحر يحيط الذي يليه منها والأنهار منحرفة في وسطها يشرب منها أهل الدور والأسواق وتأخذ منها الحمامات وفواضل الأنهار ، ترى في البحر ومدّ الأنهار فرسخ ونصف ، وفي تحت ذلك الجبل بساتين المدينة وأشجارها ومزارعها عند العيون ، وأثمار تلك الأشجار لا يرى أطيب منها ولا أعذب منها ، ويرعى الذئب والنعجة عيانا ولو قصد قاصد لتخلية دابة في زرع غيره لأرعته ولأقطعته قطعة حمله ، ولقد شاهدت السباع والهوام رابضة في غيض تلك المدينة وبنو آدم يمرّون عليها فلا تؤذيهم ، فلمّا قدمنا المدينة ، وأرسى المركب فيها وما كان صحبنا من الشّوالي (٢) والذوابيح من المباركة بشريعة الزاهرة ، صعدنا فرأينا مدينة عظيمة عيناء كثيرة الخلق وسيعة الربقة وفيها الأسواق الكثيرة والمعاش العظيم ، وترد إليها الخلق من البر والبحر وأهلها على أحسن قاعدة ، لا يكون على وجه الأرض من الامم والأديان مثلهم وأمانتهم ، حتّى أنّ المتعيش بسوق يرد إليه من يبتاع منه حاجة إما بالوزن أو بالذراع فيبايعه عليها ، ثمّ يقول : يا هذا زن لنفسك واذرع لنفسك ، فهذه صورة مبايعتهم ، ولا يسمع بينهم لغو المقال ولا السفه ولا النميمة ولا يسبّ بعضهم بعضا ، وإذا نادى المؤذن : الأذان ، لا يتخلّف منهم متخلّف ذكرا كان أو انثى إلّا ويسعى إلى الصلاة ، حتّى إذا قضيت الصلاة للوقت المفروض رجع كلّ منهم إلى بيته حتّى يكون وقت الصلاة الاخرى فتكون الحال كما كانت ، فلمّا وصلنا
__________________
(١) سورة الأنفال : ٤٢.
(٢) قرية بمرو.