عالما فاضلا عارفا بالقراءات السبع وكان له معرفة في أغلب العلوم من الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والأصولين ، وكان ليّن الطبع لم يكن عنده معاندة في البحث ولا في المذهب لحسن ذاته ، فكان إذا جرى ذكر الشيعة يقول قال العلماء الإمامية بخلاف من المدرّسين فإنّهم يقولون عند ذكر الشيعة قال علماء الرافضة فاختصصت به وتركت التردّد إلى غيره فأقمنا على ذلك برهة من الزمان أقرأ عليه في العلوم المذكورة فاتّفق أنّه عزم على السفر من دمشق الشام يريد الديار المصرية فلكثرة المحبّة التي كانت بيننا عزّ عليّ مفارقته وهو أيضا كذلك فآل الأمر إلى أنّه ـ هداه الله ـ صمّم العزم على صحبتي له إلى مصر وكان عنده جماعة من الغرباء مثلي يقرءون عليه فصحبه أكثرهم ، فسرنا في صحبته إلى أن وصلنا إلى مدينة من بلاد مصر معروفة بالقاهرة وهي أكبر من مدائن مصر كلّها فأقام بالمسجد الأزهر مدّة يدرس فتسامع فضلاء مصر بقدومه فوردوا كلّهم لزيارته وللانتفاع بعلومه ، فأقام في قاهرة مصر مدّة تسعة أشهر ونحن معه على أحسن حال وإذا بقافلة قد وردت من الأندلس ومع رجل منها كتاب من والد شيخنا الفاضل المذكور يعرفه بمرض شديد قد عرض له وأنّه يتمنّى الاجتماع به قبل الممات ويحثّه فيه على عدم التأخير ، فرقّ الشيخ من كتاب أبيه وبكى وصمّم العزم على المسير إلى جزيرة الأندلس فعزم بعض التلامذة على صحبته ومن الجملة أنا لأنّه ـ هداه الله ـ قد كان أحبّني محبّة شديدة وحسن في المسير معه فسافرت إلى الأندلس في صحبته فحيث وصلنا إلى أوّل قرية من الجزائر المذكورة عرضتني حمى منعتني عن الحركة فحيث رآني الشيخ على تلك الحالة رقّ لي وبكى وقال : يعزّ عليّ مفارقتك ، فأعطى خطيب تلك القرية التي وصلنا إليها عشرة دراهم وأمره أن يتعاهدني حتّى يكون منّي أحد الأمرين وإن منّ الله بالعافية أتبعه إلى بلده ، هكذا عهد إليّ بذلك وفّقه الله لنور الهداية إلى طريق الحقّ المستقيم ، ثمّ مضى إلى بلد الأندلس ومسافة الطريق من ساحل البحر إلى بلده خمسة أيّام فبقيت في تلك القرية ثلاثة أيّام لشدّة ما أصابني من الحمى ففي آخر اليوم الثالث فارقتني الحمى وخرجت أدور في سكك تلك القرية فرأيت قفلا قد وصل من جبال قريته من شاطئ البحر الغربي يجلبون الصوف والسمن والأمتعة فسألت عن حالهم فقيل : إنّ هؤلاء يجيئون من جهة قريته من أرض البربر وهي قريبة من جزائر الرافضة ، فحيث سمعت ذلك منهم ارتحت إليهم وجذبني باعث الشوق إلى أرضهم