فلمّا قام عمود الإمتحان ، واستوت صفوف نوع الإنسان ، وأفردت الدرجات على قدر القابليّات ، بين نبيّ رسول ، ومرسل مأمول ، وإمام عادل ، ومقتد كامل ، ومنحسر عن درجته ، وعاشق لرتبته ، أبصر الجميع مرتبة سامية ، ودرجة رفيعة عالية ، هي دون مقام الربوبيّة ، وفوق حدّ العبوديّة ، لم تنلها يد لامس ، ولا سمت إليها نفس هاجس ، قد طمحت نحوها أبصار الصدّيقين ، وانعطفت إليها قلوب المرسلين ، لقربها من الحضرة الأحديّة ، وسموّها على الرتب الإنسانيّة ، إلاّ إنّ بحيالها مصائب جمّة ، وبإزائها فوادح ملمّة ، لا طاقة لبشر على تحمّل بعضها ، ولا قوّة لمخلوق على أداء فرضها ، فمن ذلك هجر المأوى وغلبة الأعداء ، وأسر العيال ، وإظماء الأطفال ، وقتل الأصحاب ، وذبح الأحباب ، وتحمّل أعباء المصائب ، والصبر على فواقر النوائب ، وسفك دماء الأولاد ، وحمل رؤوس الإخوان على الصعاد ، وهتك خدور الصون عن الحلائل ، وسماع استغاثة النساء العقائل ، وسبي محجّبات البنات ، وسلب مصونات الأخوات ، وتشهيرهنّ على عُجف البوازل وتطوافهنّ في المرابع والمنازل ، وتعريض جسد فرد واحد لمئة وعشرين ألف مجالد ، وكرع كؤوس الإصطلام ، وتحمّل ألم ألف وتسع مئة وخمسين نوع من الكُلام ، ونصب النفس العزيزة غرضاً الحداد النصال ، وتصبير المهجة الزكية هدفاً للبلايا في النزال ، وقطع الوريدين باثنى عشرة ضربة بماضي الحدّين ، وخلع قميص البقاء ، شائقاً للقاء ، ملتذّا برحيق الجراح ، رائياً في ذلك غاية الأفراح.
فلمّا نظرت الأنبياء والصدّيقون ، والأولياء والمتّقون ، إلى ما حفّت به تلك المنزلة الرفيعة من الأرزاء الفظيعة ، تأخّر كلّ متقدّم ، وتفسكل كلّ سابق القدم ، فإذا النداء من قبل الربّ الجليل ، والملك النبيل : « يا عبادي ، من الطالب لهذه المرتبة الجليلة ، والعاشق لهذه المنزلة النبيلة » ؟ فصمت كل ناطق ، وسلا كلّ عاشق ، فأتى النداء ثانية : « ألا نبيّ مرسل ؟ ألا وليّ مبجّل ، يتحمّل هذه البليّة ، ويفوز بسموّ هذه المرتبة العليّة ، فيشري نفسه ابتغاء مرضاتنا ، ويكون شفيع