الجناحين مع صاحبه المؤمن الفقير الصالح ، فقال اغترارا منه ، وهو ظالم لنفسه بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد حين عاين الثمار والزروع والأنهار المتدفقة في مزرعته : ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ، وما أظن أن يوم القيامة آت ، كما تقول يا صاحبي ، فقوله : (السَّاعَةَ قائِمَةً) ، أي القيامة كائنة. وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه بوضعه الشيء في غير محله ؛ إذ كان يجب عليه شكر تلك النعمة ، وتفكره في عالم الآخرة ، وذلك لطول أمله ، وشدة حرصه ، وتمام غفلته ، وشدة اغتراره بالدنيا.
ثم أقسم على فرض لقاء ربه بقوله :
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي إن رجعت إلى ربي ، على سبيل الفرض والتقدير ، وكما يزعم صاحبي ، لألفين في الآخرة عند ربي خيرا وأحسن من هذا الحظ في الدنيا ، تمنيا على الله ، وادعاء لكرامتي عنده ومكانتي لديه ، وأنه لولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، ولولا استحقاقي واستئهالي ما أغناني في الدنيا ، كما جاء في آية أخرى على لسان الكافر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت ٤١ / ٥٠].
فأجابه المؤمن بقوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي أجابه صاحبه المؤمن واعظا له ، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار : أكفرت بمن خلقك من تراب؟ أي خلق أصلك من تراب ، وخلق أصله سبب في خلقه ، فكان خلقه خلقا له ، وكذلك غذاؤك وغذاء الحيوان من النبات ، وغذاء النبات من الماء والتراب ، ثم يتحول هذا الغذاء دما ، يتحول بعضه إلى نطفة تكون وسيلة للخلق ، ثم خلقك بشرا سويا تام الخلق والأعضاء ، فقوله : (سَوَّاكَ) معناه عدّلك وكمّلك إنسانا تاما ، بالغا مبلغ الرجال.