فالأصل في عدم قبول توبته هو طائل العصيان والإفساد حتى رأى البأس ، فلم تكن توبته صالحة تعني صالح الإيمان ، وحتى لو كان فكيف تقبل مع تحليق حياته على كل إفساد وعصيان ، ثم لم يكن ذلك إيمانا حيث (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) دون «فتاب» مما يدل ، وتراه بعد إنما لم تقبل توبته حيث قصد من (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) العجل الذي عبدوه؟ وإنما عبدوه أم أرادوها بعد ما جاوزوا البحر وغرق فرعون! : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ...) (٧ : ١٣٨) فهنا أرادوها ثم عبدوها ، لما غاب عنهم موسى لميقات ربه : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (٧ : ١٤٧).
أم قصد منه إلها مجسدا كما تجسّده التوراة؟ و «الآن» سؤال تنديد بتأخير الإيمان ، ولو لم يكن صالحا في أصله لكان التنديد بغير صالح الإيمان دون تأخيره ، فإنما هو الإيمان مخافة البأس ، فلو كان قبل الآن لكان صالحا يقبل ، وهنا تتبين حال سائر الاحتمال ك : أنه ورّى في قوله فأراد ب (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) نفسه ، حيث عبدهم لنفسه فترة فتيرة من الزمن الذي استعبدهم فيه.
كلّا! وإنما قصد به «الله» ولكن «قال آمنت» دون اخبار بات من الله أنه «آمن» وحتى لو آمن ف «ءآلئن» وقد مضى يوم خلاص ولات حين مناص (وَقَدْ عَصَيْتَ) طول حياتك النكدة (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ثالوث منحوس ليس عنه خلوص.
فهنا تأخير التوبة عن الحالة غير المخيفة إلى المخيفة ، هو مما يدخلها فيما لا يقبل وإن كانت صالحة ، ف (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ
__________________
ـ ليكون لمن خلفه آية ولئلا يشك أحد في هلاكه أنهم كانوا اتخذوه ربا فأراهم الله عزّ وجلّ إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة يقول الله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).