ثم (أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) دليل ثان على جاهرة الدعوة قبل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)! وترى المشركين كيف جعلوا القرآن عضين قبل ان يقرء عليهم فيعرفوه؟.
قلنا : القفزة في الدعوة الرسالية خلاف سنتها وطبيعتها ، فلا بد وان تتدرج حتى تستحكم عراها شيئا فشيئا ، وليس القيام في المدثر والمزمل إلا لأصل الدعوة المتدرجة ، ومثل هذه الدعوة المنقطعة النظير لم تكن لتخفى على زعماء الضلالة ، وهم المشركون المقتسمون المستهزؤون الذين جعلوا القرآن عضين ، وقد ذكر منهم خمسة (١) ، حال انهم بعد جاهرة الدعوة الباهرة ، الصارحة الصارخة ، أصبحوا مئات أضعافهم ، أتباعا ومتبوعين من المشركين في العهد المكي ، وكذلك الكتابيين والمنافقين في العهد المدني.
ثم في مستقبل الأمر (بِما تُؤْمَرُ) لمحة لامعة ان الصدع هنا ليس إلا بأمر جديد ، واما السابق عليه فقد ائتمره ، والأمران هما في بلاغ الشرعة ، خفية في الأول وجاهرة منذ الصّدع (٢).
وعلّ (بِما تُؤْمَرُ) تعم مادة الأمر «الذي به تؤمر» ونفس الأمر تأويلا
__________________
(١) لقد تظافرت الروايات من طريق الفريقين انهم خمسة مهما اختلفت فيها أسماؤهم وهم على ما رواه القمي في تفسيره : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن طلاطلة الخزاعي. ومثله في الدر المنثور بتفاصيل عدة في دفع شرهم وهلاكهم ، كما و «إِنَّا كَفَيْناكَ» تلمح له.
(٢) في البحار ٦ : ٣٥٦ الطبعة القديمة نقلا عن المنتقى قال : لما انزل الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصفا ونادى في ايام الموسم : «يا ايها الناس (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فرمقه الناس بأبصارهم ـ قالها ثلاثا ، ثم انطلق حتى أتى المروة ثم وضع يده في اذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته يا ايها الناس اني رسول الله ثلاثا فرمقه الناس بأبصارهم ورماه ابو جهل قبحه الله ـ