وهي المراد بالليلة ، والمباركة التي قال الله تعالى فيها (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤] وأجاب بأن هاهنا ثلاثة أشياء الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها ، وذلك في الأزل ، والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهمالسلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان ، والثالث إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليهالسلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليهالسلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليهالسلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر. وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق ، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل : يقدر في هذه ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقال الزهري : المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم : رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف. وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عزوجل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك. وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول الله ذي قدر لأمة ذات قدر. وقيل لأنه يتنزل فيها ملائكة ذوات قدر. وقال الخليل بن أحمد : المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهمالسلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ، ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلّا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عزوجل أن يخص ما شاء بما شاء ، ورب عمل قليل خير من عمل كثير. ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل
لخبر مسلم أنه صلىاللهعليهوسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : «أجرك على قدر نصبك» لأنها أغلبية على ما قال غير واحد ، ولا شك أن العمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الأداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك. نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عزوجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلّا هو جل شأنه. وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة : ٩٦] وكثيرا ما يراد بالأعداد ذلك. وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله ، أو لما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن النبي صلىاللهعليهوسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال : ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون ، فعجب أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك ، فأتاه جبريل عليهالسلام فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك. فقرأ عليه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) إلخ ثم قال : هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسرّ بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق : كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما ، وفي هذا نظر لأنه إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير ، وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير. وقيل : أري صلىاللهعليهوسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه