من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وكلا الوجهين من ظهور البطلان بحيث لا مزيد عليه. أما الأول فلأن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال سبحانه (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية كيف لا وهى منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التى عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذى تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحانى والجسمانى ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب. وأما الثانى فلما أن مناط الاصطفاء للنبوة والرسالة هو التقدم فى الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلة والصفات الجليلة والسبق فى إحراز الفضائل العلية وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ولا ريب لأحد منهم فى أنه صلىاللهعليهوسلم فى ذلك الشأن فى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية وأما التقدم فى الرياسات الدنيوية والسبق فى نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له فى ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا قال صلىاللهعليهوسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ماسقى الكافر منها شربة ماء (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن مصدرية لجواز كون صلتها أمرا كما فى قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) وذلك لأن الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سيان فساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فليجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال ووجوب كون الصلة فى الموصول الاسمى خبرية إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارف بالجمل لا لقصور فى دلالة الإنشاء على المصدر أو مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول وقد جوز كونها مخففة من المثقلة على حذف ضمير الشأن والقول من الخبر والمعنى أن الشأن قولنا أنذر الناس والمراد به جميع الناس كافة لا ما أريد بالأول وهو النكتة فى إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثانى عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بما أوحيناه وصدقوه (أَنَّ لَهُمْ) أى بأن لهم (قَدَمَ صِدْقٍ) أى سابقة* ومنزلة رفيعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصل السبق والوصول إلى المنازل الرفيعة كما يعبر* عن النعمة باليد لأنها تعطى بها وقيل مقام صدق والوجه أن الوصول إلى المقام إنما يحصل بالقدم وإضافتها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتها وللتنبيه على أن مدار نيل ما نالوه من المراتب العلية هو صدقهم فإن التصديق لا ينفك عن الصدق (قالَ الْكافِرُونَ) هم المتعجبون وإيرادهم ههنا بعنوان الكفر* مما لا حاجة إلى ذكر سببه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التى دخلت عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشىء فقيل قال الكافرون على طريقة التأكيد (إِنَّ هذا) يعنون به ما أوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم* من القرآن الحكيم المنطوى على الإنذار والتبشير (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أى ظاهر وقرىء لساحر على أن الإشارة* إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقرىء ما هذا إلا سحر مبين وهذا اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من جناب خلاق القوى والقدر ولكنهم سموه بما قالوا تماديا فى العناد كما هو ديدن